ولما كانت هذه الحروف - والله أعلم - مشيرة إلى الاجتماع كما أشار إليه آخر السورة الماضية، قال الله سبحانه وتعالى:
كذلك أي مثل هذا الإيحاء العظيم الشأن الذي أخبرك به ربك صريحا أول "فصلت" من أن الإله إله واحد وآخرها من أنه ما يقال لك
[ ص: 238 ] إلا ما قد قيل للرسل من قبلك، ومن أنه يجمع أمتك على هذا الدين بما يتبين لهم أن هذا القرآن هو الحق بما يريهم من الآيات البينات والدلالات الواضحات في الآفاق وفي أنفسهم وبشهادته سبحانه بإعجاز القرآن لجميع الإنس والجان ولا سيما إذا أقدم ضال على معارضته
كمسيلمة فإنه يتبين لهم الأمر بذلك غاية البيان "وبضدها تتبين الأشياء" ورمز لك به سبحانه تلويحا أول هذه السورة بهذه الأحرف المقطعة التي هي أعلى وأغلى من الجواهر المرصعة - إلى مثل ذلك، فهما نوعان من الوحي: صريح وعبارة، وتلويح وإشارة.
ولما كان المقصود الإفهام لأن الإيحاء منه سبحانه عادة مستمرة إلى جميع أنبيائه ورسله والبشارة له صلى الله عليه وسلم بتجديده له، مدة حياته تثبيتا لفؤاده، ودلالة على دوام وداده، عبر بالمضارع الدال على التجدد والاستمرار، وتقدم في أول البقرة نقلا عن
أبي حيان ومن قبله
nindex.php?page=showalam&ids=14423الزمخشري وغيره أنه قد لا يلاحظ منه زمن معين، بل يراد مطلق الوجود فقال: " يوحى إليك " أي سابقا ولاحقا ما دمت حيا لا يقطع ذلك عنك أصلا توديعا ولا قلى بما يريد من أمره مما يعلي لك مقدارك، وينشر أنوارك ويعلي منارك.
[ ص: 239 ] ولما كان الاهتمام بالوحي لمعرفة أنه حق - كما أشارت إليه قراءة
nindex.php?page=showalam&ids=16456ابن كثير بالبناء للمفعول - والموحي إليه لمعرفة أنه رسول حقا وكان المراد بالمضارع مجرد إيقاع مدلوله لا يفيد الاستقبال صح أن يتعلق به قوله مقدما على الفاعل:
وإلى الذين والقائم مقام الفاعل في قراءة
nindex.php?page=showalam&ids=16456ابن كثير ضمير يعود على "كذلك" .
ولما كان الرسل بعض من تقدم في بعض أزمنة القبل، أدخل الجار فقال:
من قبلك أي من الرسل الكرام والأنبياء الأعلام، بأن أمتك أكثر الأمم وأنك أشرف الأنبياء، وأخذ على كل منهم العهد باتباعك، وأن يكون من أنصارك وأشياعك. ولما قدم ما هو الأهم من الوحي والموحى إليه، أتى بفاعل
يوحي في قراءة العامة فقال:
الله أي الذي له الإحاطة بأوصاف الكمال. . وهو مرفوع عند
nindex.php?page=showalam&ids=16456ابن كثير بفعل مضمر تقديره الذي يوحيه. ولما كان نفوذ الأمر دائرا على العزة والحكمة قال:
العزيز أي الذي يغلب كل شيء ولا يغلبه شيء
الحكيم الذي يضع ما يصنعه في أتقن محاله، فلأجل ذلك لا يقدر على نقض ما أبرمه، ولا نقص
[ ص: 240 ] ما أحكمه.
وقال الإمام
أبو جعفر بن الزبير : لما تضمنت سورة غافر ما تقدم من بيان حالي المعاندين والجاحدين، وأعقبت بسورة السجدة بيانا أن حال كفار العرب في ذلك كحال من تقدمه وإيضاحا لأنه الكتاب العزيز وعظيم برهانه، ومع ذلك فلم يجد على من قضى عليه تعالى بالكفر، اتبعت السورتان بما اشتملت عليه سورة الشورى من أن ذلك كله إنما جرى على ما سبق في علمه تعالى بحكم الأزلية
فريق في الجنة وفريق في السعير وما أنت عليهم بوكيل ولو شاء الله لجعلهم أمة واحدة ولولا كلمة الفصل لقضي بينهم وهو على جمعهم إذا يشاء قدير وما أنتم بمعجزين في الأرض ومن يضلل الله فما له من سبيل إن عليك إلا البلاغ نهدي به من نشاء من عبادنا فتأمل هذه وما التحم بها مما لم يجر في السورة المتقدمة منه إلا النادر، ومحكم ما استجره، وبناء هذه السورة
[ ص: 241 ] على ذلك ومدار آيها، يلح لك وجه اتصالها بما قبلها والتحامها بما جاورها.
ولما ختمت سورة السجدة بقوله تعالى
ألا إنهم في مرية من لقاء ربهم أعقبها سبحانه بتنزيهه وتعاليه عن ريبهم وشكهم، فقال تعالى
تكاد السماوات يتفطرن من فوقهن كما أعقب بمثله في قوله تعالى
وقالوا اتخذ الرحمن ولدا لقد جئتم شيئا إدا تكاد السماوات يتفطرن منه ولما تكرر في سورة حم السجدة ذكر تكبر المشركين وبعد انقيادهم في قوله تعالى
فأعرض أكثرهم وقالوا قلوبنا في أكنة إلى ما ذكر تعالى من حالهم المنبئة عن بعد استجابتهم فقال تعالى في سورة الشورى
كبر على المشركين ما تدعوهم إليه - انتهى.