ولما كان الإيحاء السابق أول السورة للبشرى لأنها المقصود بالذات وكانت البشرى مقتضية تلويحا ورمزا بالأحرف المقطعة لاجتماع أهل الدين وغلبتهم على سائر الأديان وأن دينهم يعم سائر الأمم ويحيط بجميع الخلق، ولا يريد أحد بأهله سوءا إلا كان له فيه رفعة كما مضى بيانه، وكانت رمزا لأن المقام للنذار بما تشهد به السورة الماضية، وكان المراد بها التكرار حتى لا تزال لذاذتها في أذن المبشر وحلاوتها في قلبه، ذكرها بلفظ المضارع الدال على التجدد والتكرار والحدوث والاستمرار، وكان المتعنت ربما حمله له على الوعد بالإيحاء في المستقبل، وكان العاقل يكفيه في النذرى مرة واحدة فقال معبرا بالماضي الدال على الإمضاء والقطع والقضاء الحتم في كل من الإيحاء وفائدته التي هي الإنذار، عاطفا على ما يتصل بالآية السالفة المختومة
[ ص: 249 ] بنفي الوكالة مما تقديره: إنما عليك البلاغ بالبشارة والنذارة، وقد أوحينا إليك البشارة رمزا، كما جرت به عادة الأحباب في محاورات الخطاب، ولفت القول إلى مظهر العظمة لأن الإنذار من مجازه:
وكذلك أي ومثل ذلك الإيحاء الذي قدمنا أنا حبوناك به من وحي الإشارة بالحروف المقطعة
أوحينا بما لنا من العظمة مع الفرق بين كل ملبس
إليك قرآنا جامعا لكل حكمة
عربيا فهو بين الخطاب واضح الصواب معجز الجناب
لتنذر أي به
أم القرى مكة التي هي أم الأرض وأصلها، منها دحيت ولشرفها أوقع الفعل عليها، عدا لها عداد العقلاء، ثم بين أن المراد أهلها بقوله:
ومن أي وتنذر من
حولها وهم سكان جميع الأرض التي هي أمها، وبذلك فسره
nindex.php?page=showalam&ids=13889البغوي فقال: قرى الأرض كلها، وكذا
القشيري وقال: العالم محدق
بالكعبة ومكة لأنها سرة الأرض.
ولما كان مفعول " تنذر " الثاني على ما هدى إليه السياق ما عذبت به الأمم السالفة والقرون الماضية حين تمادى بهم الكفر وغلب عليهم الظلم في اتخاذهم أولياء من دون الله، عطف عليه:
وتنذر أي أم القرى ومن حولها مع عذاب الأمم في الدنيا
يوم الجمع أي لجميع الخلائق ببعثهم من الموت، حذف المفعول الأول من الشق الثاني،
[ ص: 250 ] والمفعول الثاني من الأول، فالآية من الاحتباك: ذكر المنذرين أولا دلالة على إرادتها ثانيا، وذكر المنذر به وهو يوم الجمع ثانيا دلالة على المنذر به من عذاب الأمم أولا، ليذهب به الوهم في المحذوف كل مذهب، فيكون أهول، وذكر هذا المذكور أفخم وأوجل.
ولما كان الإنذار - وهو الإعلام بموضع المخافة - تارة يكون عما لا علم به، وهو الأغلب، وتارة عما وقع العمل به ثم خالف المنذر به علمه فعمل أعمال من لا علم له به، نبه على أنه هذا من القسم الثاني بقوله في جملة حالية:
لا ريب فيه أي لأنه قد ركز في فطرة كل أحد أن
الحاكم إذا استعمل عبيده في شيء ثم تظالموا فلا بد له بما تقتضيه السياسة من جمعهم لينصف بينهم وإلا عد سفيها، فما ظنك بأحكم الحاكمين.
ولما تشوف السامع إلى ما يفعل في جمعهم، وكان الثقلان لما طبعوا عليه من النقصان أهل فرقة وطغيان، ذكر نهايته معبرا بما هو من الفرقة بقوله مسوغا الابتداء بالنكرة للتفصيل أو تقرير الوصف:
فريق أي من المجموعين أهل فرقة تداركهم الله بأن جعلهم أهل
[ ص: 251 ] جمع
في الجنة فضلا منه وهم الذين قبلوا الإنذار وبالغوا في الحذار
وفريق أي منهم خذلهم الله ووكلهم إلى أنفسهم فزادوا في الفرقة
في السعير عدلا منه، قال
القشيري: كما أنهم في الدنيا فريقان: فريق في درجات الطاعة وحلاوات العبادات، وفريق في ظلمات الشرك وعقوبات الجحد والشك، فلذلك غداهم فريقان: فريق هم أهل اللقاء، وفريق هم أهل البلاء والشقاء. روى
nindex.php?page=showalam&ids=12251الإمام أحمد عن
nindex.php?page=showalam&ids=13عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال:
nindex.php?page=hadith&LINKID=664437خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي يده كتابان فقال: "أتدرون ما هذان الكتابان؟ قال: قلنا لا، إلا أن تخبرنا يا رسول الله! قال للذي في يده اليمنى: هذا كتاب من رب العالمين بأسماء أهل الجنة وأسماء آبائهم وقبائلهم، ثم أجمل على آخرهم، ولا يزاد فيهم ولا ينقص منهم أبدا، ثم قال للذي في يساره: هذا كتاب أهل النار بأسمائهم وأسماء آبائهم وقبائلهم، ثم أجمل على آخرهم، لا يزاد فيهم ولا ينقص منهم أبدا، فقال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: فلأي شيء نعمل إن كان هذا أمرا قد فرغ منه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: سددوا وقاربوا فإن صاحب الجنة يختم له بعمل الجنة وإن عمل أي عمل وإن صاحب النار يختم له بعمل النار وإن عمل أي عمل، قال بيده [ ص: 252 ] فقبضها، ثم قال: فرغ ربكم عز وجل من العباد، ثم قال باليمنى فنبذ بها فقال: فريق في الجنة، ونبذ باليسرى فقال: فريق في السعير"
قال
nindex.php?page=showalam&ids=16456ابن كثير : وهكذا رواه
nindex.php?page=showalam&ids=15397النسائي nindex.php?page=showalam&ids=13948والترمذي جميعا، وقال
nindex.php?page=showalam&ids=13948الترمذي : حسن صحيح غريب.