ولما كان المراد بالمشركين مع عباد الأوثان أهل الكتاب الذين اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله لقبولهم منهم التحليل والتحريم،
[ ص: 268 ] وكان ذلك مفهما لأنهم فارقوا أهل الطاعة، وكان ذلك موهما لأنهم ما فارقوهم إلا عن جهل، قال عاطفا على ما تقديره: فأتى الرسل إلى الناس فأقاموا لهم الدين وبينوا لهم غاية التبيين فاجتبى الله بعضهم وأضل بعضهم فافترقوا:
وما تفرقوا أي المشركين من قبلكم من أهل الكتاب وغيرهم في أديانهم
إلا وأدخل الجار لعدم استغراق الزمان فقال:
من بعد ما جاءهم أي على ألسنة أنبيائهم الذين لم يدعوا لبسا
العلم أي بما لا يسوغ معه التفرق ومنه أن الفرقة ضلالة، وأشار الجار أيضا إلى أن التفرق كان مع العلم لم يكن طال الزمان فتطرق إلى علمهم نسيان كل ذلك بيانا لعظيم قدرة الله تعالى في تصرفه في القلوب، فإياكم أن يكون حالكم كحالهم فليشتد خوفكم لربكم ورجاءكم له.
ولما كان ترك طريق العلم عجبا ومستبعدا، قال مبينا أن الذي حملهم على ذلك حظوظ الأنفس التي لا نجاة منها إلا بعصمة الله تعالى:
بغيا أي حال كون تفرقهم عداوة ولا شبهة فيها هي بينة الظلم لأجل حظوظ الأنفس واتباع الأهواء التي يجب على العبد البعد عنها بأن لا تكون له إرادة أصلا بل تكون إرادته تابعة لأمر مولاه.
[ ص: 269 ] ولما كان مطلق البغي منافيا لمكارم الأخلاق، فكان ارتكابه عجبا، زاد في التعجب منه ببيان أن البغي لم يعد جماعتهم إلى غيرها، بل كان خاصا بها، فقال:
بينهم
ولما كان ذلك يقتضي المعالجة، قال عاطفا على ما تقديره: فلولا قدرة الله ولطفه لما اجتمعوا بعد الفرقة أبدا:
ولولا كلمة أي لا تبديل لها
سبقت أي في الأزل بتأخيرهم إلى آجالهم. ولما كان إمهالهم والرفق بهم رحمة لهم، بين أن ذلك إنما هو لأجل خير الخلق ليكونوا أتباعا له فيزدادوا لذلك شرفا، وأفرده بالذكر تنبيها على ذلك فقال مؤنسا له صلى الله عليه وسلم بلفت الكلام إلى صفة الإحسان إرضاء له بما يرجوه في أمته، وزاد ذلك بالإضافة إلى ضميره فأفهم أن إحسانه إليهم إحسان يليق بمقامه، ويلتئم بمراده الشريف ومرامه:
من ربك أي المحسن إليك بجعلك خير الخلائق وإمامهم، سبقت الكلمة بإمهالهم
إلى أجل مسمى ضربه لآجالهم ثم لجمعهم في الآخرة
لقضي على أيسر وجه وأسهله
بينهم حين الافتراق بإهلاك الظالم وإنجاء المحق.
ولما أخبر عن حال المتقدمين، وكان من في زمانه صلى الله عليه وسلم من أهل الكتاب يدعون غاية العلم بها والاجتماع عليها، وهي كلها داعية إلى المبادرة إلى إرث هذا الكتاب الخاتم الجامع،
[ ص: 270 ] وكان بعضهم يتلبس بالتنسك والإعراض عن الدنيا وغير ذلك مما يقتضي أنه على بصيرة من أمره، وإنكار أن يكون عنده نوع شك، قال على وجه يعم غيرهم، مؤكدا تنبيها على ذلك:
وإن الذين ولما كان المراد الوصول إلى الكتاب من غير منازع، ولم تدع حاجة إلى العلم بالموصل، بني للمفعول قوله:
أورثوا الكتاب أي الكامل الخاتم، وهم هذه الأمة بما نسخ كتابهم ما تقدمه كان غيرهم كأنه مات، فورثوا كما قال تعالى
ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا فكان حالهم في تمكنهم من التصرف في الكتاب بالحفظ والفهم وعدم المنازع في ادعائه حال الوارث والموروث منه فقال:
من بعدهم أي المتفرقين، وأثبت الجار لعدم استغراق الزمان
لفي شك منه أي إيراث للكتاب المقتضي للاجتماع لا للتفرق لما فيه من الخير، وذلك لعملهم عمل الشاك فيقولون: إنه سحر وشعر وكهانة، ونحو ذلك، وأن الآتي به غير صادق بعد اطلاعهم على ما أتى به من المعجزات وبعد معرفتهم به، أما
العرب ومن ساكنهم من أهل الكتاب فبإعجازه مع ما في أهل الكتاب من البشارة به،
[ ص: 271 ] وأما غير من ساكنهم فبدعوة كتابهم
مريب أي موقع في التهمة الموقعة في الحاجة الموقعة في صروف الدهر وهي شدائده وآفاته ونوائبه هذا على أن المراد كتابنا، ويجوز أن يكون الضمير لأهل الكتاب خاصة والكتاب كتابهم، وشكهم فيه عملهم بغير ما دعاهم إليه من اتباع كتابنا باتباع نبينا صلى الله عليه وسلم.