ولما جزم سبحانه بما توعدهم بعد أن حكم على حجتهم بالدحوض، وكان لا يجزم بالشيء إلا من كان نافذ الأمر محيط الحكم، نبه على أنه كذلك، مبينا ما به يعرف ثبات الحجج ودحوضها المستلزم للغضب من الله المستعقب للعذاب، بقوله لافتا القول إلى الاسم الأعظم تنبيها على عظمة المخبر عنه:
الله أي الذي له جميع الملك
الذي وأشار بالتعبير بالإنزال إلى أن المراد جملة الكتاب الذي لا مطعن في شيء منه فقال:
أنـزل الكتاب أي أوجد إنزاله هو لا غيره
بالحق أي متلبسا
[ ص: 281 ] على أكمل الوجوه بالأمر الثابت الذي لا يبدل وبسبب العمل الحق العام للأقوال والأفعال والعقائد لتعرف الحجج الثابتة من غيرها.
ولما كان الكتاب آمرا بالعدل قالا وحالا، وكان من محسوسات أوامره التقدير بالمقادير الضابطة، قال مخصصا معبرا بأقومها إشارة إلى أن الكتاب أعدل عدالة عند العقل وأبين من الميزان للحس:
والميزان أي الأمر به مريدا به عينه حقيقة وجميعها بل جميع العدل الذي تقدم في "لا عدل بينكم" مجازا. ولما ثبت أن من جادل فيه كانت حجته داحضة إذا حوسب في الساعة فكان معذبا، وكان التقدير بما هدى إليه السياق تسلية له صلى الله عليه وسلم فيما يقاسي في إنفاذ ما أمر به من العدل في جميع أقواله وأفعاله وصبره على أذاهم: فمن فزع إلى الكتاب في المعاني وإلى الميزان في الأعيان فبنى أمره على تحقق العدل فيهما بهما فاز، ومن أهمل ذلك خاب فدحضت حجته وسقطت عند ربع منزلته وما يدريك لعل من جار يعاجل في الدنيا بالأخذ لكون أجله الذي سبقت الكلمة بتأخيره إليه قد حضر، عطف عليه قوله موجها الخطاب إلى أعلى الخلق تعظيما للأمر:
وما يدريك [ ص: 282 ] يا أكمل الخلق
لعل الساعة التي أشير إليها في هذه الآية بقوله
عند ربهم بعد أن صرح بها في غير آية. ولما كان تأنيث الساعة غير حقيقي لأنها بمعنى الوقت، ذكرها فقال:
قريب فأفهم ذلك أنها ذات الشدائد وأن شدائدها ذكور الشدائد وأن قربها أسرع من لمع البرق لما له من الثبات في الحق، أو ذكرها على إرادة السبب أي ذات قرب، أو على حذف مضافة أي مجيئها، وعلى كل حال فهو دال على تفخيمها أي إنك بمظنة من قرب القيامة، فيقع بهم ما توعدوا به مما ينبغي الإشفاق منه، فيظهر فيها العدل بموازين القسط لجميع الأعمال ظهورا لا يتمارى فيه أحد فيشرف من وفى، ويخزي من جار وجفا.