ولما تضمن قولهم إثبات عظمة لأنفسهم بالاعتراض على الملك، قال منكرا عليهم موبخا لهم بما معناه أنه ليس الأمر مردودا إليهم ولا موقوفا عليهم بل هو إلى الله وحده
الله أعلم حيث يجعل رسالته أهم أي أهؤلاء الجهلة العجزة
يقسمون أي على التجدد والاستمرار: ولفت القول عن إفراد الضمير إلى صفة الرحمة المضافة إلى النبي صلى الله عليه وسلم تشريفا له وإظهارا لعلي قدره:
رحمت ربك أي إكرام المحسن إليك وإنعامه وتشريفه بأنواع اللطف والبر وإعظامه بما رباك له من تخصيصك بالإرسال إليهم بتأهيلهم للإنقاذ من الضلال، وجعلك وأنت أفضل العالمين الرسول إليهم ففضلوا بفضيلتك مع أنك أشرفهم نسبا وأفضلهم حسبا وأعظمهم عقلا وأصفاهم لبا وأرحمهم قلبا ليتصرفوا في تلك الرحمة التي هي روح الوجود وسر الأمر بحسب شهواتهم وهم لا يقدرون على التصرف في المتاع الزائل بمثل ذلك.
ولما نفى أن يكون لهم شيء من القسم قال جوابا لمن كأنه
[ ص: 422 ] قال: فمن القاسم ؟ دالا على بعدهم عن أن يكون إليهم شيء من قسم ما أعد لأديانهم بما يشاهدونه من بعدهم عن قسم ما أعد لأبدانهم، لافتا القول عن صفة الإحسان إلى مظهر العظمة إشارة إلى أنها تأبى المشاركة في شيء وتقتضي التفرد:
نحن قسمنا أي بما من العظمة
بينهم أي في الأمر الذي يعمهم ويوجب تخصيص كل منهم بما لديهم
معيشتهم التي يعدونه رحمة ويقصرون عليها النعمة
في الحياة الدنيا التي هي أدنى الأشياء عندنا، وأشار إلى أنها حياة ناقصة لا يرضاها عاقل، وأما الآخرة فعبر عنها بالحيوان لأنا لو تركنا قسمها إليهم لتعاونوا على ذلك فلم يبق منهم أحد فكيف يدخل في الوهم أن يجعل إليهم شيئا من الكلام في أمر النبوة التي هي روح الوجود، وبها سعادة الدارين:
ورفعنا بما لنا من نفوذ الأمر
بعضهم وإن كان ضعيف البدن قليل العقل
فوق بعض وإن كان قويا عزيز العقل
درجات في الجاه والمال ونفوذ الأمر وعظم القدر لينتظر حال الوجود، فإنه لا بد في انتظامه من تشارك الموجودين وتعاونهم، تفاوتنا بينهم في الجثث والقوى والهمم ليقتسموا الصنائع، والمعارف والبضائع، ويكون كل ميسر لما خلق له، وجانحا إلى ما هي له لتعاطيه، فلم يقدر أحد من دنيء أو غني أن يعدو قدره
[ ص: 423 ] وترتقي فوق منزلته.
ولما ذكر ذلك، علله بما ثمرته عمارة الأرض فقال:
ليتخذ أي بغاية جهده
بعضهم بعضا ولما كان المراد هنا الاستخدام دون الهزء لأنه لا يليق التعليل به، أجمع القراء على ضم هذا الحرف هنا فقال:
سخريا أي أن يستعمله فيما ينوبه أو يتعسر أو يتعذر عليه مباشرته ويأخذ للآخر منه من المال ما هو مفتقر إليه، فهذا بماله، وهذا بأعماله، وقد يكون الفقير أكمل من الغني ليكمل بذلك نظام العالم لأنه لو تساوت المقادير لتعطلت المعايش، فلم يقدر أحد أن ينفك عما جعلناه إليه من هذا الأمر الدنيء فكيف يطمعون في الاعتراض في أمر النبوة، أيتصور عاقل أن يتولى قسم الناقص ونكل العالي إلى غيرنا، قال
ابن الجوزي : فإذا كانت الأرزاق بقدر الله لا بحول المحتال وهي دون النبوة فكيف تكون النبوة - انتهى. وهذا هو المراد بقوله تعالى صارفا القول عن مظهر العظمة والسلطان إلى الوصف بالإحسان إظهارا لشرف النبي صلى الله عليه وسلم
ورحمت ربك أي المربي لك والمدبر لأمرك بإرسالك وإنارة الوجود برسالتك التي هي لعظمتها جديرة بأن تضاف إليه ولا يسمى غيرك رحمة
خير مما يجمعون من الحطام الفاني فإنه وإن تأتي فيه خير باستعماله في وجوه البر بشرطه، فهذا بالنسبة إلى النبوة، وما قارنا
[ ص: 424 ] مما دعا إلى الإعراض عن الدنيا متلاش.