ولما أبطل سبحانه إلهية غيره التي أدى إليها الجهل، واستمر إلى أن ختم بالعلم الموجب لمعرفة الحق، فكان التقدير إبطالا لشبهتهم الوهمية القائلة
لو شاء الرحمن ما عبدناهم فاستحضر جميع ما أوحى إليك وتأمله غاية التأمل، هل ترى فيه خفاء في الإلهية لشيء دون الله، عطف عليه قوله نفيا لدليل سمعي كما أشير إليه بقوله
أم آتيناهم كتابا واسأل من أرسلنا أي على ما لنا من العظمة. ولما كان الممكن تعرفه من آثار الرسل إنما هو
لموسى وعيسى ومن بينهما من أنبياء بني
[ ص: 438 ] إسرائيل عليهم الصلاة والسلام الحافظ لسنتهم من التوراة والإنجيل والزبور وسفر الأنبياء، قال مثبتا للجار المفهم لبعض الزمان:
من قبلك
ولما كان أتباعهم قد غيروا وبدلوا فلم تكن بهم ثقة، عبر بالرسل فقال:
من رسلنا أي بقراءة أتباعهم لكتبهم التي حرفوا بعضها، وجعلت كتابك مهيمنا عليها فإنهم إذا قرءوها بين يديك وعرضوها عليك علمت معانيها وفضحت تحريفهم وبينت اتفاق الكتب كلها برد ما ألبس عليهم من متشابهها إلى محكمها، فالمراد من هذا نحو المراد من آية يونس
فاسأل الذين يقرءون الكتاب من قبلك ومن آية الأنبياء
هذا ذكر من معي وذكر من قبلي مع زيادة الإشارة إلى تحريفهم، فالمسؤول في الحقيقة القرآن المعجز على لسان الرسول الذي شهدت له جميع الرسل الذين أخذ عليهم العهد بالإيمان به والمتابعة له، وبهذا التقرير ظهر ضعف قول من قال: إن المراد سؤال الرسل حقيقة لما جمعوا له صلى الله عليه وسلم في
بيت المقدس ليلة الإسراء، فإنه ليس المراد من هذا إلا تبكيت الكفار من
العرب وممن عزهم من أهل الكتاب بقولهم: دينكم خير من دينه وأنتم أهدى سبيلا منه، فإنهم
[ ص: 439 ] إذا أحضروا كتبهم علمت دلالتها القطعية على
اختصاصه سبحانه بالعبادة كما بينته في كتابي هذا يرد المتشابه منها إلى المحكم، وجعلها
nindex.php?page=showalam&ids=16935ابن جرير مثل قوله تعالى
فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر وقال: ومعلوم أن معنى ذلك: فردوه إلى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، قال: فاستغنى بذكر الرسل عن ذكر الكتب. وهو عين ما قلته، ولو كان المراد حقيقة السؤال وسؤال جميع الرسل لقال "قبلك" بإسقاط "من" ليستغرق الكل - والله أعلم.
ولما ذكر المسؤول مفخما له بما اقتضته العبارة من الإرسال والإضافة إليه، ذكر المسؤول عنه بقوله تعالى:
أجعلنا أي أبحنا وأمرنا ورضينا على ما لنا من العظمة والقدرة التامة، مما ينافي ذلك، وقرر حقارة ما سواه بقوله:
من دون وزاد بقوله:
الرحمن أي الذي رحمته عمت جميع الموجودات
آلهة ولما كان قد جعل لكل قوم وجهة يتوجهون في عبادتهم إلها، وشيئا محسوسا بغلبة الأوهام على الأفهام يشهدونه وكان ربما تعنت به متعنت، قال محترزا:
يعبدون أي من عابد ما بوجه ما.
[ ص: 440 ] ولما كان المترفون مولعين بأن يزدروا من جاءهم بالرد عن أغراضهم الفاسدة بنوع من الازدراء كما قال كفار
قريش لولا نـزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم ولا يزالون يردون هذا وأمثاله من الضلال حتى يقهرهم ذو الجلال بما أتتهم به رسله إما بإهلاكهم أو غيره وإن كانوا في غاية القوة، أورد سبحانه قصة
موسى عليه الصلاة والسلام شاهدة على ذلك بما قال
فرعون لموسى عليه الصلاة والسلام من نحو ذلك ومن إهلاكه على قوته وإنجاء بني إسرائيل على ضعفهم، وتسلية للنبي صلى عليه وسلم وترجية.