ولما كان أمانهم بعد انخلاع قلوبهم بعيدا؛ ولا سيما بكونه بالنعاس؛ الذي هو أبعد شيء عن ذلك المقام الوعر؛ والمحل الضنك؛ عطف بأداة البعد؛ في قوله:
ثم أنـزل عليكم ولما أفاد بأداة الاستعلاء عظمة الأمن؛ وكان متصلا بالغم؛ ولم يستغرق زمن ما بعده؛ أثبت الجار؛ فقال:
من بعد الغم ؛ أي: المذكور؛ وأنتم في نحر العدو؛
أمنة ؛ أي: أمنا عظيما؛ ثم أبدل منها - تنبيها على ما فيها من الغرابة - قوله:
نعاسا ؛ دليلا قطعيا؛ فإنه لا يكون إلا من أمن; روى
nindex.php?page=showalam&ids=12070البخاري في التفسير؛ عن
nindex.php?page=showalam&ids=9أنس - رضي الله عنه - أن
nindex.php?page=showalam&ids=86أبا طلحة - رضي الله عنه -
[ ص: 98 ] قال:
"غشينا النعاس ونحن في مصافنا يوم
"أحد"؛ فجعل سيفي يسقط من يدي؛ وآخذه؛ ويسقط؛ وآخذه"؛ ولما كان لبعضهم فقط؛ استأنف وصفه بقوله:
يغشى طائفة منكم ؛ وهم المؤمنون؛ وابتدأ الإخبار عن الباقين بقوله:
وطائفة ؛ أي: أخرى؛ من المنافقين؛
قد أهمتهم أنفسهم ؛ لا المدافعة عن الدين؛ فهم إنما يطلبون خلاصها؛ ولا يجدون إلى ذلك فيما يظنون سبيلا لاتصال رعبهم؛ وشدة جزعهم؛ فعوقبوا على ذلك بأنه لم يحصل لهم الأمن المذكور؛ ثم فسر همهم؛ فقال:
يظنون بالله ؛ المحيط بصفات الكمال؛
غير الحق ؛ أي: من أن نصره بعد هذا لا يمكن؛ أو أنهم لو قعدوا في
المدينة لم يقتل أحد؛ ونحو ذلك؛ من سفساف الكلام؛ وفاسد الظنون التي فتحتها "لو"؛ والأوهام؛
ظن الجاهلية ؛ أي: الذين لا يعلمون - من عظمة الله - سبحانه وتعالى - بأن ما أراده كان؛ ولا يكون غيره - ما يعلم أتباع الرسل.
ثم فسر الظن بقوله:
يقولون ؛ أي: منكرين؛ لأنه لم يجعل الرأي رأيهم؛ ويعمل بمقتضاه؛ غضبا؛ وتأسفا على خروجهم في هذا الوجه؛ وعدم رجوعهم مع
ابن أبي؛ بعد أن خرجوا؛
هل لنا من الأمر ؛ أي: المسموع؛ ولكون الاستفهام بمعنى النفي؛ ثبتت أداة الاستغراق في قوله:
من شيء ؛ فكأنه قيل: فماذا يقال لهم؟ فقيل:
قل ؛ أي: لهم؛ ردا عليهم؛ احتقارا
[ ص: 99 ] بهم:
إن الأمر ؛ أي: الحكم الذي لا يكون سواه؛
كله لله ؛ أي: الذي لا كفؤ له؛ وليس لكم؛ ولا لغيركم منه شيء؛ شئتم أو أبيتم؛ غزوتم أو قعدتم؛ ثبتم أو فررتم.
ولما قص - سبحانه وتعالى - عليهم بعض أمرهم في هذه الحرب؛ وبين لهم شيئا من فوائد ما فعل بهم؛ بقوله:
إن يمسسكم قرح ؛ وكان من جملة ذلك ما أظهر من أسرار المنافقين بهذه الوقعة؛ في اتهامهم الله ورسوله؛ حتى وصل إلى هنا؛ وكان قولهم هذا غير صريح في الاتهام؛ لإمكان حمله على مساق الاستفهام؛ أخبر - سبحانه وتعالى - بتدليسهم؛ بقوله:
يخفون ؛ أي: يقولون ذلك مخفين؛
في أنفسهم ما لا يبدون لك ؛ لكونه لا يرضاه الله؛ ثم بين ذلك بعد إجماله؛ فقال:
يقولون لو كان لنا من الأمر ؛ أي: المسموع؛
شيء ما قتلنا ها هنا ؛ لأنا كنا نمكث في
المدينة؛ ولا نخرج إلى العدو.
ولما أخبر - سبحانه وتعالى - عنهم بما أخفوه جهلا منهم؛ ظنا أن الحذر يغني من القدر؛ أمره - سبحانه وتعالى - بالرد عليهم؛ بقوله:
قل لو كنتم في بيوتكم ؛ أي: بعد أن أجمع رأيكم على ألا يخرج منكم
[ ص: 100 ] أحد؛
لبرز الذين كتب عليهم القتل ؛ أي: في هذه الغزوة؛
إلى مضاجعهم ؛ أي: التي هي مضاجعهم بالحقيقة؛ وهي التي قتلوا بها؛ لأن ما قدرناه لا يمكن أحدا دفعه بوجه من الوجوه؛ ثم عطف على ما علم تقديره؛ ودل عليه السياق؛ قوله:
وليبتلي ؛ أي: لبرز المذكورون لينفذ قضاؤه؛ ويصدق قوله لكم في غزوة
"بدر": "إن فاديتم الأسارى؛ ولم تقتلوهم؛ قتل منكم في العام المقبل مثلهم"؛
وليبتلي الله ؛ أي: المحيط بصفات الكمال؛ بهذا الأمر التقديري؛
ما في صدوركم ؛ أي: من الإيمان؛ والنفاق؛ بأن يفعل؛ في إظهاره من عالم الغيب إلى عالم الشهادة؛ فعل المختبر؛ كما فعل بما وجد في هذه الغزوة من الأمور التحقيقية؛
وليمحص ما في قلوبكم ؛ أي: يطهره ويصفيه من جميع الوساوس الصارفة عن المراقبة من محبة الدنيا؛ من الغنائم التي كانت سبب الهزيمة؛ وغيرها.
وختم بقوله:
والله ؛ أي: الذي له الإحاطة بكل شيء؛
عليم بذات الصدور ؛ مرغبا؛ ومرهبا؛ ودافعا لما قد يتوهم من ذكر الابتلاء من عدم العلم بالخفايا.
ولما كانوا في هذه الغزوة قد حصل لهم ضرر عظيم؛ لكنه كان بما وقع من بعضهم من الخلل الظاهر؛ فأدبهم بذلك؛ عفا عنهم - سبحانه
[ ص: 101 ] وتعالى - بعد ذلك التأديب؛ ورحمهم؛ وطيب قلوبهم بهذه الآية؛ بما فيها من التأمين صريحا؛ وبما فيها من الإشارة بجمع جميع حروف المعجم فيها؛ تلويحا إلى أن أمرهم لا بد أن يتم؛ كما تمت الحروف في هذه الآية؛ لكنه افتتحها بأداة التراخي؛ إشارة إلى أنه لا يكون إلا بعد مدة مديدة؛ حتى تصقل مرائي الصدور التي ختمها بها؛ بخلاف ما في الآية الأخرى الجامعة للحروف في آخر سورة "الفتح"؛ التي نزلت في
"الحديبية"؛ التي ساءهم رجوعهم منها دون وصولهم إلى قصدهم - كما يأتي إن شاء الله - سبحانه وتعالى.