ولما علم بما قام من الأدلة وانتصب من القواطع أن هذا مآلهم، سبب عنه قوله ردا على ما بعد خلق الخافقين في مطلعها من أمر الرسول صلى الله عليه وسلم ونسبتهم له إلى الافتراء وما بعده:
فاصبر أي: على مشاق ما ترى في تبليغ الرسالة، قال
القشيري: والصبر
[ ص: 190 ] هو الوقوف بحكم الله والثبات من غير بث ولا استكراه.
كما صبر أولو العزم أي: الجد في الأمر والحزم في الجد والإرادة المقطوع بها والثبات الذي لا محيد عنه، الذين مضوا في أمر الله مضيا كأنهم أقسموا عليه فصاروا كالأسد في جبلته والرجل الشديد الشجاع المحفوف بقبيلته، قال
الرازي في اللوامع: فارقت نفوسهم الشهوات والمنى؛ فبذلوا نفوسهم لله صدقا لاتفاق النفس القلب على البذل.
ولما تشوف [السامع] إلى بيانهم قال:
من الرسل عليهم الصلاة والسلام، وقيل: وهو ظاهر جدا: أن "من" للتبعيض، والمراد بهم أصحاب الشرائع الذين اجتهدوا في تأسيس قواعدها وتثبيت معاقدها، ومشاهيرهم
نوح وإبراهيم وموسى وعيسى صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين وقد نظمهم بعضهم في قوله:
أولو العزم نوح والخليل بن آزر وموسى وعيسى والحبيب محمد
والخلاف في تعيينهم كثير منتشر، هذا القول أشهر ما فيه، وكله مبني على أن "من" للتبعيض وهو الظاهر، والقول بأنهم جميع الرسل
[ ص: 191 ] -قال
ابن الجوزي - قاله
ابن زيد واختاره
nindex.php?page=showalam&ids=12590ابن الأنباري وقال: "من" للتجنيس لا للتبعيض، وفي قول أنهم جميع الأنبياء إلا يونس عليه الصلاة والسلام - قال
ابن الجوزي : حكاه
nindex.php?page=showalam&ids=13968الثعلبي .
ولما أمره بالصبر الذي هو من أعلى الفضائل، نهاه عن العجلة التي هي من أمهات الرذائل، ليصح التحلي بفضيلة الصبر الضامنة للفوز والنصر فقال:
ولا تستعجل لهم أي: تطلب العجلة وتوجدها بأن تفعل شيئا مما يسوءهم في غير حينه الأليق به. ولما كان ما أمر به ونهى عنه في غاية الصعوبة، سهله بقوله مستأنفا:
كأنهم يوم يرون أي: في الدنيا عند الموت مثلا أو في الآخرة وقت العرض والحساب والهول الأعظم الأكبر الذي تقدمت الإشارة إليه جدا والتحذير منه لأهل المعاصي والبشارة فيه لأهل الطاعة، فأما هذه الطائفة فإذا رأوا
ما يوعدون من ظهور الدين في الدنيا والبعث في الآخرة، وبناه للمفعول لأن المنكأ هو الإيعاد لا كونه من معين
لم يلبثوا أي: في الدنيا حيث كانوا عالين
إلا ساعة
ولما كانت الساعة قد يراد بها الجنس وقد تطلق على الزمن الطويل، حقق أمرها وحقرها بقوله:
من نهار ولما تكفل ما ذكر في هذه السورة من الحجج الظاهرة والبراهين الباهرة ببيان ما هو
[ ص: 192 ] مقصودها بحيث لم يبق فيه لبس، وكان مقصودها آئلا إلى سورة إبراهيم عليه الصلاة والسلام، وهو التوحيد اللازم منه إحاطة العلم بكل شيء وشمول القدرة لكل شيء ختمت بما ختمت به إبراهيم إلا أن لحواميم لبابا، حذف المبتدأ ومتعلق الخبر وقيل:
بلاغ أي: هذا [الذي] ذكر هنا [هو] من الظهور وانتشار النور بحيث يرد المنذرين ويوصلهم إلى رضى العزيز الحكيم الكافل بالنور الدائم والنعيم المقيم، ومن لم يوصله فذلك الذي حكم العزيز بشقائه فلا حيلة لغيره في شفائه من عظيم دائه، ولذلك سبب عن كونه بلاغا قوله زيادة على ختام إبراهيم ما يناسب مطلعها:
فهل يهلك بني للمفعول من أهلك، لأن المحذور الهلاك وإن لم يعين المهلك، وللدلالة على أن إهلاكهم عليه سبحانه وتعالى يسير جدا
إلا القوم الذين فيهم أهلية القيام بما يحاولونه من اللدد
الفاسقون أي: العريقون في إدامة الخروج من محيط ما يدعو إليه هادي العقل والفطرة الأولى من الطاعة الآتي بها النقل إلى مضل المعصية الناهي عنها النقل والعقل، وأما الذين فسقوا والذين يفسقون فإن هادي هذه السورة يردهم ويوصلهم إلى المقصود، فهذا الآخر نتيجة قوله أولها
والذين كفروا عما أنذروا معرضون [ ص: 193 ] وذكر اليوم الموعود هو الأجل الذي أوجد الخافقان لأجله وبسببه والدلالة على القدرة بخلقهما من غير إعياء هو ذكره أولهما أنهما ما خلقا إلا بالحق، وذكر البلاغ هو تنزيل الكتاب من الله وحكمه على العريق بالفسق بالهلاك مع الهادي الشفيق ولغيره بالنجاة بعد انسيابه في الفسق مع التكرر هو من ثمرات العزة والحكمة، فقد التحم هذا الآخر بذاك الأول أي التحام، واتصل بمعناه اتصال الجوهر النفيس في متين النظام، والتأم بأول التي تليها أحسن التئام فسبحان من جعله أشرف الكلام، لكونه صفة الملك العلام، منزلا على خاتم الرسل الكرام، ورسول - الملك العلام - صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وأهل بيته الكرام وسلم تسليما كثيرا.