ولما تقدم في قصة
"أحد"؛ رجوع المنافقين؛ وهزيمة بعض المؤمنين؛ مما كان سبب ظفر الكافرين؛ وعاب سبحانه ذلك عليهم بأنهم هربوا من موجبات السعادة والحياة الأبدية إلى ما لا بد منه؛ وإلى ذلك أشار بقوله:
قل لو كنتم في بيوتكم ولئن قتلتم في سبيل الله قل فادرءوا عن أنفسكم الموت ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله ؛ وغير ذلك؛ مما
[ ص: 145 ] بكتهم به في رجوعهم حذر الموت؛ وطلب امتداد العمر؛ مع ما افتتح به من أن موت هذا النبي الكريم؛ وقتله ممكن؛ كما كان من قبله من إخوانه من الرسل - على جميعهم أفضل الصلاة والسلام؛ والتحية والإكرام -؛ وختم بالإخبار بأنه وقع قتل كثير من الرسل؛ فكان ذلك محققا؛ لأنه لا يصان من الموت خاص ولا عام؛ مضموما إلى ما نشاهد من ذلك في كل لحظة; صور ذلك الموت بعد أن صار مستحضرا للعيان تصويرا أوجب التصريح به؛ إشارة إلى أن حالهم في هربهم؛ ورجوعهم؛ وما تبع ذلك من قولهم حال من هو في شك منه؛ فقال (تعالى):
كل نفس ؛ أي: منفوسة؛ من
عيسى؛ وغيره؛ من أهل الجنة؛ والنار؛
ذائقة الموت ؛ أي: وهو المعنى الذي يبطل معه تصرف الروح في البدن؛ وتكون هي باقية بعد موته؛ لأن الذائق لا بد أن يكون حال ذوقه حيا؛ حساسا؛ ومن يجوز عليه ذوق الموت يجوز عليه ذوق النار؛ وهو عبد؛ محتاج؛ فالعاقل من سعى في النجاة منها؛ والإنجاء؛ كما فعل الخلص الذين منهم
عيسى؛ ومحمد - عليهما أفضل الصلاة وأزكى السلام -؛ وكان نظمها بعد الآيات المقتضية لتوفية الأجور بالإثابة عليها؛ وأنه ليس بظلام للعبيد؛ شديد الحسن؛ وذلك مناسب أيضا لختم الآية بالتصريح؛
[ ص: 146 ] لتوفية الأجور يوم الدين؛ وأن الزحزحة عن النار؛ ودخول الجنة؛ لهو الفوز؛ لا الشح في الدنيا بالنفس والمال؛ الذي ربما كان سببا لامتداد العمر؛ وسعة المال؛ بقوله:
وإنما توفون ؛ أي: تعطون؛
أجوركم ؛ على التمام؛ جزاء على ما عملتموه؛ من خير؛ وشر؛
يوم القيامة ؛ وأما ما يكون قبل ذلك من نعيم القبر؛ ونحوه؛ فبعض؛ لا وفاء؛
فمن زحزح ؛ أي: أبعد في ذلك اليوم إبعادا عظيما؛ سريعا؛
عن النار وأدخل الجنة فقد فاز ؛ أي: بالحياة الدائمة؛ والنعيم الباقي.
والمعنى أن كل نفس توفى ما عملت؛ فتوفى أنت أجرك على صبرك على أذاهم؛ وكذا من أطاعك؛ ويجازون هم على ما فرطوا في حقك؛ فيقذفون في غمرة النار؛ وكان الحصر إشارة إلى تقبيح إقبالهم على الغنيمة وغيرها من التوسع العاجل؛ أي: إنما مقتضى الدين الذي دخلتم فيه هذا؛ وذلك ترهيبا من الالتفات إلى تعجل شيء من الأجر في الدنيا - كما قال
nindex.php?page=showalam&ids=1أبو بكر - رضي الله عنه - في أول إسلامه: "وجدت بضاعة بنسيئة؛ ما وقعت على بضاعة قط أنفس منها؛ وهي (لا إله إلا الله)"؛ فالحاصل أن كل نفس - أي: حذرة من الموت؛ ومستسلمة - ذائقة الموت؛ أي: فعلام الاحتراس منه بقعود عن الغزو؛ أو هرب من العدو؟! وإنما توفون أجوركم - أي: يا أهل الإسلام - التي وعدتموها على الأعمال الصالحة؛
[ ص: 147 ] يوم القيامة؛ أي: فما لكم تريدون تعجلها بإسراعكم إلى الغنائم؛ أو غيرها مما يزيد في أعراض الدنيا؛ فتكونوا ممن تعجل طيباته في الحياة الدنيا؛ فمن - أي: فحيث علم أنه لا فوز في الدنيا إلا بما يقرب إلى الله - سبحانه وتعالى - تسبب عن ذلك أنه من زحزح عن النار - أي: بكونه وفي أجره؛ ولم يتعجل طيباته - وأدخل الجنة - أي: بما عمل من الصالحات؛ فحاز الحياة الدائمة؛ مع الطيبات الباقية - فقد فاز؛ أي: كل الفوز.
ولما صح أنه لا فوز إلا ذلك؛ صح قوله:
وما الحياة الدنيا ؛ أي: التي أملي لهم فيها؛ وأزيلت عن الشهداء؛
إلا متاع الغرور ؛ أي: المتاع الذي يدلس الشيطان أمره على الناس حتى يغتروا به؛ فيغبنوا بترك الباقي؛ وأخذ الأشياء الزائلة؛ بانقضاء لذاتها؛ والندم على شهواتها بالخوف من تبعاتها.
وفي ذلك أيضا مناسبة من وجه آخر؛ وهو أنه لما سلاه - سبحانه وتعالى - بالرسل الذين لازموا الصبر؛ والاجتهاد في الطاعة؛ حتى ماتوا؛ وأممهم؛ وتركوا ما كان بأيديهم؛ عاجزين عن المدافعة؛ ولم يبق إلا ملكه - سبحانه وتعالى -؛ وأن الفريقين ينتظرون الجزاء؛ فالرسل لتمام الفوز؛ والكفار لتمام الهلاك; أخبر أن كل نفس كذلك؛ ليجتهد الطائع؛ ويقتصر العاصي؛ وفي ذلك تعريض بالمنافقين الذين رجعوا عن
"أحد"؛ خوف القتل؛ وقالوا عن الشهداء:
لو أطاعونا ما قتلوا ؛ أي: إن الذي فررتم
[ ص: 148 ] منه لا بد منه؛ والحياة التي آثرتموها متاع يندم عليه من محضه للتمتع؛ كما يندم المغرور بالمتاع الذي غر به؛ فالسعيد من سعى في أن يكون موته في رضا مولاه الذي لا محيص له عن الرجوع إليه؛ والوقوف بين يديه.