ولما ذكر هذا الملك العظيم؛ وختم بشمول القدرة؛ دل على ذلك بالتنبيه على التفكر فيه؛ الموجب للتوحيد؛ الذي هو المقصد الأعظم من هذه السورة؛ الداعي إلى الإيمان؛ الموجب للمفازة من العذاب؛ لأن المقصود الأعظم من إنزال القرآن تنوير القلوب بالمعرفة؛ وذلك لا يكون إلا بغاية التسليم؛ وذلك هو اتباع الملة الحنيفية؛ وهو متوقف على صدق النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ فبدأ - سبحانه وتعالى - السورة بدلائل صدقه؛ بإعجاز القرآن؛ بكشفه - مع الإعجاز بنظمه على لسان النبي الأمي -
[ ص: 155 ] للشبهات؛ وبيانه للخفيات؛ وأظهر مكابرة أهل الكتاب؛ وفضحهم أتم فضيحة؛ فلما تم ذلك على أحسن وجه؛ منظما ببدائع الحكم؛ من الترغيب؛ والترهيب؛ شرع في بث أنوار المعرفة؛ بنصب دلائلها القريبة؛ وكشف أستارها العجيبة؛ فقال:
إن في خلق السماوات والأرض ؛ أي: على كبرهما؛ وما فيهما من المنافع؛ ونبه على التغير الدال على المغير؛ بقوله:
واختلاف الليل والنهار ؛ أي: اختلافا هو - كما ترون - على غاية الإحكام؛ بكونه على منهاج قويم؛ وسير لا يكون إلا بتقدير العزيز العليم؛
لآيات ؛ أي: على جميع ما جاءت به الرسل عن الخالق؛ وزاد الحث على التفكر والتهييج إليه؛ والإلهاب من أجله؛ بقوله:
لأولي الألباب ؛ وذكر - سبحانه وتعالى - في أخت هذه الآية؛ في سورة "البقرة"؛ ثمانية أنواع من الأدلة؛ واقتصر هنا على ثلاثة؛ لأن السالك يفتقر في ابتداء السلوك إلى كثرة الأدلة؛ فإذا استنار قلت حاجته إلى ذلك؛ وكان الإكثار من الأدلة كالحجاب الشاغل له عن استغراق القلب في لجج المعرفة؛ واقتصر هنا من آثار الخلق على السماوية؛ لأنها أقهر؛ وأبهر؛ والعجائب فيها أكثر؛ وانتقال القلب منها إلى عظمته - سبحانه وتعالى - وكبريائه أشد وأسرع؛ وختم تلك بما هو لأول السلوك؛ العقل؛ وختم هذه بلبه؛ لأنها لمن تخلص من وساوس الشيطان؛ وشوائب هواجس الوهم المانعة من الوصول إلى حق اليقين؛ بل علم اليقين.