ولما وعد الذين وقع منهم الإحسان، وصفهم فقال:
الذين يجتنبون أي يكلفون أنفسهم ويجهدونها على أن يتركوا
كبائر الإثم أي ما عظم الشارع إثمه بعد تحريمه بالوعيد والحد، وعطف على "
كبائر الإثم " قوله:
والفواحش والفاحشة من الكبائر ما يكرهه الطبع وينكره العقل ويستخسه.
ولما أفهم هذا التقييد أن من خالط ما دون فما دون كان مغفورا له، صرح به فقال:
إلا أي لكن
اللمم معفو، فمن خالطه لا يخرج عن عداد من أحسن، فهو استثناء منقطع، ولعله وضع فيه " إلا " موضع " لكن " إشارة إلى الصغير يمكن أن يكون كبيرا باستهانته مثلا كما قال تعالى
وتحسبونه هينا وهو عند الله عظيم واللمم هو صغار الذنوب، والمراد هنا ما يحصل منها في الأحيان كأنه وقع في صاحبه فلتة بغير اختيار منه، لا ما يتخذ عادة أو يكثر حتى يصير كالعادة، قال الرازي في اللوامع: وأصله مقاربة الذنب ثم الامتناع منه قبل الفعل، قال
ذو النون: ذكر الفاحشة من العارف كفعلها من غيره - انتهى. يقال: وألم بالمكان - إذا قل لبثه فيه، وقال
nindex.php?page=showalam&ids=13889البغوي: قال
nindex.php?page=showalam&ids=14468السدي: قال
أبو صالح أنه سئل عن اللمم فقال: هو الرجل يلم بالذنب
[ ص: 68 ] ثم لا يعاوده، قال: فذكرت ذلك
nindex.php?page=showalam&ids=11لابن عباس رضي الله عنهما فقال: لقد أعانك عليها ملك كريم، ثم قال
nindex.php?page=showalam&ids=13889البغوي: فأصل اللمم والإلمام ما يعمله الإنسان الحين بعد الحين، ولا يكون له إعادة ولا إقامة عليه - انتهى - وعلى هذا يصح أن يكون الاستثناء متصلا.
ولما كان الملوك لا يغفرون لمن تكررت ذنوبه إليهم وإن صغرت، فكان السامع يستعظم أن يغفر ملك الملوك سبحانه مثل هذا، علل ذلك بقوله:
إن ربك أي المحسن إليك بإرسالك رحمة للعالمين والتخفيف عن أمتك
واسع المغفرة فهو يغفر الصغائر حقا أوجبه على نفسه ويغفر الكبائر إن شاء بخلاف غيره من الملوك فإنه لو أراد ذلك ما أمكنه أتباعه، ولو جاهد حتى تمكن من ذلك في وقت فسدت مملكته فأدى ذلك إلى زوال الملك من يده أو اختلاله.
ولما وصف الذين أحسنوا فكان ربما وقع في وهم أنه لا يعلمهم سبحانه إلا بأفعالهم، وربما قطع من عمل بمضمون الآية أنه ممن أحسن، قال نافيا لذلك:
هو أعلم بكم أي بذواتكم وأحوالكم منكم بأنفسكم
إذ أي حين
أنشأكم ابتداء
من الأرض التي طبعها طبع الموت: البرد واليبس بإنشاء أبيكم
آدم عليه السلام منها وتهيئتكم للتكوين بعد أن لم يكن فيكم تقوية قريبة ولا بعيدة أصلا يميز الثواب الذي يصلح لتكونكم منه والذي لا يصلح
وإذ أي حين
أنتم أجنة أي مستورون.
[ ص: 69 ] ولما كان البشر قد يكون في بطن الأرض وإن كان الجنين معروفا للطفل في البطن، حقق معناه بقوله:
في بطون أمهاتكم بعد أن مزج بذلك التراب البارد اليابس الماء والهواء، فنشأت الحرارة والرطوبة، فكانت هذه الأربعة الأخلاط الزكية والدنية، ولكن لا علم لكم أصلا، فهو يعلم إذ ذاك ما أنتم صائرون إليه من خير وشر وإن عملتم مدة من العمر بخلاف ذلك فإنه يعلم ما جبلكم عليه من ذلك وأنتم لا تعلمون إلا ما يكون في أنفسكم حال كونه أنكم لا تحيطون به إذ ذاك علما.
ولما كان من عادة من سلم من الذنوب أن يفتخر على من قارفها لما بني الإنسان عليه من محبة الفخر لما جبل عليه من النقصان، وكان حاله قد يتبدل فيسبق عليه الكتاب فيشقى، سبب عن ذلك قوله:
فلا تزكوا أي تمدحوا بالزكاة وهو البركة والطهارة عن الدناءة
أنفسكم أي حقيقة بأن يثني على نفسه فإن تزكيته لنفسه من علامات كونه محجوبا عن الله - قال
القشيري - أو مجازا بأن يثني على غيره من إخوانه فإنه كثيرا ما يثني بشيء فيظهر خلافه، وربما حصل له الأذى بسببه
"وإن العبد ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا باع أو ذراع" الحديث، ولذلك علل بقوله:
هو أعلم أي منكم ومن جميع الخلق
بمن اتقى أي جاهد نفسه حتى حصل فيه تقوى، فهو يوصله فوق ما يؤمل من الثواب في الدارين، فكيف بمن صارت له التقوى وصفا ثابتا.