صفحة جزء
ولما ختمت الواقعة بالأمر بتنزيهه عما أنكره الكفرة من البعث، جاءت هذه لتقرير ذلك التنزيه [و]تبيينه بالدليل والبرهان والسيف والسنان فقال تعالى كالتعليل لآخر الواقعة: سبح أي: أوقع التسبيح بدلالة الجبلة تعظيما له سبحانه وإقرارا بربوبيته وإذعانا لطاعته، وقصره وهو متعد ليدل على العموم بقصره، وعلى الإخلاص بتعديته باللام وجعله ماضيا هنا وفي الحشر والصف ومضارعا في الجمعة والتغابن ليدل على أن مما أسند إليه التسبيح هو من شأنه وهجيراه وديدنه وتخصيص كل من الماضي والمضارع بما افتتح به لما يأتي [في] أول الجمعة، والإتيان بالمصدر أول الإسراء أبلغ من حيث إنه يدل إطلاقه [ ص: 252 ] على استحقاق التسبيح [من كل شيء] وفي كل حال لله أي الملك المحيط بجميع صفات الكمال ما في السماوات أي الأجرام العالية والذي فيها وهي الأرض ومن فيها وكل سماء ومن فيها، وما بينهما لأنها كلها في العرش الذي هو أعلى الخلق.

ولما كان الكلام آخر الواقعة مع أهل الخصوص بل هو أخص أهل الخصوص، لم يحتج إلى تأكيد فحذف ما جعلا للخافقين كشيء واحد لأن نظره لهما نظر علو نظرا واحدا لما أخبر به عنهما من التنزيه فقال: والأرض أي وما فيها وكذا [نفس] الأراضي كما تقدم، فشمل، ذلك جميع الموجودات لأنه إذا سبح ذلك كله فتسبيح العرش بطريق الأولى وتنزيه هذه الأشياء بما فيها من الآيات الدالة على أنه سبحانه لا يلم بجنابه شائبة نقص، وأن كل شيء واقف على الباب يشاهد الطلب، قال القشيري: التسبيح: التقديس والتنزيه، ويكون بمعنى سباحة الأسرار في بحار الإجلال، فيظفرون بجواهر التوحيد، وينظمونها في عقد الإيمان، ويرصعونها في أطواق الوصلة.

ولما قرر ذلك، دل على أنه لا قدرة لشيء على الانفكاك عنه، وأن له كل كمال، فهو المستحق للتسبيح والحمد فقال: وهو أي وحده العزيز الذي يغلب كل شيء ولا يغلبه شيء الحكيم الذي أتقن كل شيء صنعه.

وقال الأستاذ أبو جعفر بن الزبير العاصمي في برهانه: لما تقدم قوله [ ص: 253 ] [سبحانه] وتعالى: فلولا تصدقون وفيه من التقريع والتوبيخ لمن قرع به ما لا خفاء به، ثم أتبع بقوله تعالى: أفرأيتم ما تمنون الآيات إلى قوله: ومتاعا للمقوين فعزروا ووبخوا على سوء جهلهم وقبح ضلالهم، ثم قال سبحانه وتعالى بعد ذلك: أفبهذا الحديث أنتم مدهنون واستمر توبيخهم إلى قوله: إن كنتم صادقين فلما أشارت هذه الآيات إلى قبائح مرتكباتهم، أعقب تعالى [ذلك] تنزيهه عز وجل عن سوء ما انتحلوه وضلالهم فيما جهلوه فقال تعالى: فسبح باسم ربك أي نزهه عن عظيم ضلالهم وسوء اجترائهم، ثم أعقب ذلك بقوله: سبح لله ما في السماوات والأرض أي سبح باسم ربك، فهي سنة العالم بأسرهم ، وله أسلم من في السماوات والأرض سبح لله ما في السماوات والأرض ثم أتبع ذلك بقوله: له الملك وله الحمد [فبين تعالى انفراده بصفة الجلال ونعوت الكمال، وأنه المتفرد بالملك والحمد] وأنه الأول والآخر والظاهر والباطن إلى قوله: وهو عليم بذات الصدور فتضمنت هذه الآيات إرغام من أشير إلى حاله في الآية المتقدمة من سورة الواقعة وقطع ضلالهم والتعريف بما جهلوه من صفاته العلى وأسمائه الحسنى جل وتعالى، وافتتحت آي السورتين واتصلت معانيها ثم صرف الخطاب إلى عباده المؤمنين فقال تعالى: آمنوا بالله ورسوله واستمرت الآي على خطابهم إلى آخر السورة - انتهى.

التالي السابق


الخدمات العلمية