ولما كان هذا وعظا شافيا لسقام القلوب، وكاشفا لغطاء الكروب، أنتج قوله حاثا على الإقبال على كتابه الذي رحم به عباده بإنزاله على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم على وجه معلم بإعجازه أنه كلام مستعطفا لهم إلى جنابه زاجرا لهم عما سأل بعضهم فيه سلمان رضي الله عنه من أن يحدثهم عن التوراة والإنجيل، فكانوا كلما سألوه عن شيء أنزل سبحانه آية يزجرهم بها وينبههم على أن هذا القرآن فيه [كل ما] يطلب إلى أن أنزل هذه الآية زاجرة هذا الزجر العظيم لئلا يظن ظان أن القرآن غير كاف، مخوفا لهم بما وقع لأهل الكتاب من الإعراض عن كتابهم، قال الكلبي نزلت في المنافقين بعد الهجرة بسنة، وقال
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس رضي الله عنهما: إن الله استبطأ قلوب المؤمنين على رأس ثلاث عشرة سنة من نزول القرآن، فقال:
ألم يأن أي يحن وينته ويدرك إلى غاية
للذين آمنوا أي أقروا بالإيمان بألسنتهم صدقا أو كذبا
أن تخشع أي أن يكون لهم رتبة عالية في الإيمان بأن تلين وتسكن وتخضع وتذل وتطمئن فتخبت فتعرض عن الفاني وتقبل على الباقي
قلوبهم لذكر الله [ ص: 279 ] أي الملك الأعظم الذي لا خير إلا منه فيصدق في إيمانه من كان كاذبا ويقوى في الدين من كان ضعيفا، فلا يطلب لذلك دينه دواء ولا لمرض قلبه شفاء في غير القرآن، فإن ذكر الله يجلو أصداء القلوب ويصقل مرائيها.
ولما كان
الذكر وحده كافيا في الخشوع والإنابة والخضوع لأنه مجمع لكل رغبة ومنبع لكل رهبة، وكان من الناس من لا نفوذ له فيما له سبحانه من الجلال والإكرام قال:
وما نـزل أي الله تعالى بالتدريج - على قراءة الجماعة بالتشديد، وما وجد إنزاله من عند الله على خاتم رسله صلى الله عليه وسلم على قراءة
nindex.php?page=showalam&ids=17192نافع وحفص عن
nindex.php?page=showalam&ids=16273عاصم ورويس بخلف عنه عن
يعقوب بالتخفيف
من الحق أي من الوعد والوعيد والوعظ وغير ذلك على نبيكم صلى الله عليه وسلم من القرآن إشارة إلى أن غير هذا الذكر دخله الدخيل، وأما هذا فثابت ثباتا لا يقدر أحد على إزالته.
ولما كان للمسابقة والمنافسة أمر عظيم في تحريك الهمم لأهل الأنفة وأولي المعالي قال:
ولا يكونوا كالذين ولما كان العلم بمجرده كافيا في إعلاء الهمة فكيف [إذا] كان من عند الله فكيف إذا كان بكتاب، إشارة إلى ذلك بالبناء للمجهول فقال:
أوتوا الكتاب أي لو كان الإتيان من عند غير الله لكان جديرا بالهداية فكيف وهو من عنده. ولما كان إنزال الكتب لم يكن إلا على بني إسرائيل
[ ص: 280 ] فلم يكن مستغرقا للزمان الماضي أدخل الجار فقال:
من قبل أي قبل ما نزل إليكم وهم اليهود والنصارى.
ولما كانوا في كل قليل يعبرون قال عاطفا على
أوتوا الكتاب فطال عليهم الأمد أي الزمان الذي ضربناه لشرفهم ومددناه لعلوهم من أول إيتائهم الكتاب الذي من شأنه ترقيق القلوب، والأمد الأجل، وكل منهما يطلق على المدة كلها وعلى آخرها، وكذا الغاية بقول النحاة: "من" لابتداء الغاية و "إلى" لانتهائها، والمراد جميع المدة
فقست أي بسبب الطول
قلوبهم أي صلبت واعوجت حتى كانت بحيث لا تنفعل للطاعات والخير فكانوا كل القليل في تعنت شديد على أنبيائهم عليهم الصلاة والسلام يسألونهم المقترحات، وأما بعد إيتائهم فأبعدوا في القساوة، فمالوا إلى دار الكدر بكلياتهم وأعرضوا عن دار الصفاء فانجروا إلى الهلاك باتباع الشهوات، قال
القشيري: وقسوة القلب إنما تحصل من اتباع الشهوة وإن الشهوة والصفوة لا تجتمعان.
ولما كان التقدير: فبعضهم ثبت على تزلزل، عطف عليه قوله:
وكثير منهم أخرجته قساوته عن الدين أصلا ورأسا فهم
فاسقون أي عريقون في وصف الإقدام على الخروج من دائرة الحق التي عداها لهم الكتاب، وعن
nindex.php?page=showalam&ids=16414عبد الله بن الزبير عن
nindex.php?page=showalam&ids=10عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنه قال: "لم يكن بين إسلامهم وبين أن نزلت هذه الآية يعاتبهم الله
[ ص: 281 ] بها إلا أربع سنين" - رواه
nindex.php?page=showalam&ids=14687الطبراني في الكبير، قال الهيثمي: وفيه
موسى بن يعقوب الربعي وثقه
ابن معين وغيره وضعفه
ابن المديني وبقية رجاله رجال الصحيح- . انتهى.