ولما بين أن الدنيا خيال ومحال ليصرف الكملة من العباد عنها لسفولها وحقارتها، وأن الآخرة بقاء وكمال ليرغبوا غاية الرغبة فيها وليشتاقوا كل الاشتياق لكمالها وشرفها وجلالها، أنتج ذلك قوله تعالى:
سابقوا أي افعلوا في السعي لها بالأعمال الصالحة حق السعي فعل
[ ص: 292 ] من يسابق شخصا فهو يسعى ويجتهد غاية الاجتهاد في سبقه، ولكن ربما كان قرينه بطيئا فسار هوينا، وأما المسارعة فلا تكون إلا بجهد النفس من الجانبين مع السرعة في العرف، فآية آل عمران الآمرة بالمسارعة الأخص من المسابقة أبلغ لأنها للحث على التجرد عن النفس والمال وجميع الحظوظ أصلا ورأسا، ولذلك كانت جنتها للمتقين الموصوفين، وأما هذه ففي سياق التصديق الذي هو تجرد عن فضول الأموال ولذلك كانت [جنته] للذين آمنوا.
ولما كان المقام عظيما، والإنسان - وإن بذلك الجهد - ضعيفا، لا يسعه إلا العفو سواء كان سابقا أو لاحقا من الأبرار والمقربين، نبه على ذلك بقوله في السابقين;
إلى مغفرة أي ستر لذنوبكم عينا وأثرا
من ربكم أي المحسن إليكم بأن رباكم وطوركم بعد الإيجاد بأنواع الأسباب بأن تفعلوا أسباب ذلك بامتثال أوامره سبحانه واجتناب زواجره. ولما كان المقصود من المغفرة ما يترتب عليها من نتيجتها قال:
وجنة أي وبستان هو من عظم أشجارها واطراد أنهارها بحيث يستر داخله. ولما كان ذلك لا يكمل إلا بالسعة قال:
عرضها أي فما ظنك بطولها. ولما كان السياق كما بين للتجرد عن فضول الأموال فقط لأن الموعود به دون ما في آل عمران فأفرده وصرح بالعرض فقال:
كعرض السماء والأرض أي لو وصل بعضها ببعض، فآية آل عمران تحتمل الطول وجميع السماوات والأرض على هيئتها، ويحتمل أن
[ ص: 293 ] يكون ذلك على تقدير أن تقد كل واحدة منهما ويوصل [رأس] كل قدة برأس الأخرى، وتمتد جميع القدات إلى نهايتها على مثل الشراك، وهذه الآية ظاهرها عرض واحد وأرض واحدة
أعدت أي هيئت هذه الجنة الموعود بها وفرغ من أمرها بأيسر أمر
للذين آمنوا أي أوقعوا هذه الحقيقة وهم من هذه الأمة إيقاعا لا ريب معه ولو أنه على أدنى الوجوه فكانوا من السابقين، وهذا يدل على أن الجنة موجودة الآن في آيات كثيرة، وأن الإيمان كاف في استحقاقها، وأحاديث الشفاعة مؤيدة لذلك
بالله أي الذي له جميع العظمة لأجل ذاته مخلصين له بالإيمان
ورسله فلم يفرقوا بين أحد منهم، فهذه الجنة غير مذكورة في آل عمران، وإن قيل: إن السماء هنا للجنس لكون السياق فيه الصديقون والشهداء كانت أبلغته تلك بالتصريح بالجمع وعدم التصريح بالعرض لكونها في سياق صرح فيه بالجهاد، وقد جرت السنة الإلهية بإعظام للمجاهدين لشدة الخطر في أمر النفس وصعوبة الخروج عنها وعن جميع المألوفات.
ولما كان ما ذكر من الوعد بالمغفرة والجنة عظيما لا سيما لمن آمن ولو كان إيمانه على أعلى الدرجات ومع التجرد من جميع الأعمال، عظمه بقوله ردا على من يوجب عليه سبحانه شيئا من ثواب أو عقاب:
ذلك أي الأمر العظيم جدا
فضل الله أي الملك الذي لا كفؤ له
[ ص: 294 ] فلا اعتراض عليه
يؤتيه من يشاء ولعل التعبير بالمضارع للإشارة إلى أن هذا خاص بهذه الأمة التي هي أقل عملا وأكثر أجرا، فإذا حسدهم أهل الكتاب قال تعالى: [هل] ظلمتكم من أمركم شيئا، فإذا قالوا: لا، لأن المصروف من الأجر لجميع الطوائف على حسب الشرط، قال: ذلك فضلي أوتيه من أشاء.
والله أي والحال أن الملك المختص بجميع صفات الكمال فله الأمر كله
ذو الفضل العظيم أي الذي جل عن أن يحيط بوصفه العقول.