ولما مدح المهاجرين وأعطاهم فطابت نفوس الأنصار بذلك وكانوا في كل حال معه صلى الله عليه وسلم كالميت بين يدي الغاسل، مهما شاء فعل، ومهما أراد منهم صار إليه ووصل، أتبعه مدحهم جبرا لهم وشكرا لصنيعهم فقال عاطفا على مجموع القصة:
والذين تبوءوا أي جعلوا بغاية جهدهم
الدار الكاملة في الدور وهي التي أعدها الله في الأزل للهجرة وهيأها للنصرة وجعلها دائرة على جميع البلدان محيطة بها غالبة عليها محل إقامتهم وملابستهم وصحبتهم وملازمتهم لكونها أهلا لأن يعود إليها من خرج منها فلا يهجرها أصلا، فهي محل مناه وليست
[ ص: 438 ] موضعا يهاجر منه لبركتها أو خيرها.
ولما كان المراد الإبلاغ في مدحهم، قال مضمنا "تبوؤا" معنى لازم:
والإيمان أي [و]لابسوه وصحبوه وخصوه بالصحبة ولزموه لزوما هو كلزوم المنزل الذي لا غنى لنازله عنه، ويجوز أن يكون [الإيمان] وصفا للدار بإعادة العاطف للإشارة إلى التمكن في كل من الوصفين فيكون كأنه قيل: تبوؤا
المدينة التي هي الدار وهي الإيمان لأنها محل تمكن الإيمان وانتشاره وظهوره في سائر البلدان فلشدة ملابستها [له] سميت به، ويجوز أن يكون المعنى: ومحل الإيمان إشارة إلى أنهم ما أقاموا بها لأجل أن أموالهم بها بل محبة في الإيمان علما منهم بأنه لا يتم بدره، ويكمل شرفه وقدره، وتنشر أعلامه ويقوى ذكره إلا بها، ولولا ذلك لهجروها وهاجروا إلى النبي صلى الله عليه وسلم في أي مكان حله، فهو مدح لهم بأنهم متصفون بالهجرة بالقوة مع اتصافهم بالنصرة بالفعل.
ولما كان انفرادهم بإقامة الإيمان في الدار المذكورة قبل قدوم المهاجرين عليهم مدحا تاما، قال مادحا لهم بذلك دالا بإثبات الجار على أنهم لم يستغرقوا زمان القبل من حين إرسال الرسول صلى الله
[ ص: 439 ] عليه وسلم بالأمرين:
من قبلهم أي قبل هجرة المهاجرين لأن وصفهم بالهجرة لم يكن إلا بعد إيجادها فالأنصار جمعوا التمكن في الإيمان إلى التمكن في الدار من قبل أن يجمع المهاجرون بينهما بالهجرة.
ولما ابتدأ ذكرهم هذا الابتداء الجليل، أخبر عنهم بقوله:
يحبون أي على سبيل التجديد والاستمرار، وقيل العطف على المهاجرين، وهذه حال فيكون هذا حكما بالمشاركة
من هاجر وزادهم محبة فيهم وعطفا عليهم بقوله:
إليهم لأن القصد إلى الإنسان يوجب حقه عليه لأنه لولا كمال محبته له ما خصه بالقصد إليه، والدليل الشهودي على ما أخبر الله عنهم به من المحبة أنهم شاطروا المهاجرين في أموالهم وعرضوا عليهم أن يشاطروهم نساءهم على شدة غيرتهم، فأبى المهاجرون المشاطرة في النساء وقبلوا منهم الأموال.
ولما أخبرهم بالمحبة ورغبهم في إدامتها، عطف على هذا الخبر ما هو من ثمراته فقال:
ولا يجدون [أي] أصلا
في صدورهم التي هي مساكن قلوبهم فتصدر منها أوامر القلوب فضلا عن [أن] تنطق ألسنتهم. ولما كان المراد نفي الطلب منهم لما خص به المهاجرين، وكان الحامل على طلب ذلك الحاجة، وكان كل أحد يكره أن ينسب
[ ص: 440 ] إلى الحاجة وإن أخبر بها عن نفسه في وقت ما لغرض قال:
حاجة موقعا اسم السبب على المسبب
مما أوتوا أي المهاجرون من الفيء وغيره من أموال بني النضير وغيرهم من أي مؤت كان فكيف إذا كان المؤتي هو الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، وإذا لم يجدوا حاجة تدعوهم إلى الطلب فلأن لا يجدوا حسدا ولا غيظا من باب الأولى، فهذه الآية من أعظم حاث على حسن الإخاء محذر من الحسد والاستياء. ولما أخبر عن تخليهم عن الرذائل أتبعه الإخبار بتحليهم بالفضائل فقال:
ويؤثرون عظم ذلك بقصر الفعل فصار المعنى: يوقعون الأثرة وهي اختيار الأشياء الحسنة لغيرهم تخصيصا لهم بها لا على أحبائهم مثلا بل
على أنفسهم فيبذلون لغيرهم[ كائنا ] من كان ما في أيديهم، وذكر النفس دليل على [أنهم في] غاية النزاهة من الرذائل لأن النفس إذا طهرت كان القلب أطهر، وأكد ذلك بقوله:
ولو كان أي كونا هو في غاية المكنة
بهم أي خاصة لا بالمؤثر
خصاصة أي فقر وخلل في الأحوال وحاجة شديدة تحيط بهم من كل جانب، من خصائص البناء و[هي] فرجه.
ولما كان التقدير: فمن كان كذلك فهو من الصادقين، عطف [عليه] قوله:
ومن ولما كان المقصود النزاهة عن الرذيلة من أي جهة كانت. وكان علاج الرذائل صعبا جدا، لا يطيقه الإنسان
[ ص: 441 ] إلا بمعونة من الله شديدة، بنى للمفعول قوله:
يوق شح نفسه أي يحصل بينه وبين أخلاقه الذميمة المشار إليها بالنفس وقاية تحول بينه وبينها، فلا يكون مانعا لما عنده، حريصا على ما عند غيره حسدا، قال
nindex.php?page=showalam&ids=12ابن عمر رضي الله عنه: الشح أن تطمح عين الرجل فيما ليس له، قال صلى الله عليه وسلم:
nindex.php?page=hadith&LINKID=661683اتقوا الشح فإنه أهلك من كان قبلكم، حملهم على أن سفكوا دماءهم واستحلوا محارمهم .
ولما كان النظر [إلى] التطهير من سفساف الأخلاق عظيما، سبب عنه إفهاما لأنه لا يحصل ما سببه عنه بدونه قوله
فأولئك أي العالو المنزلة
هم أي خاصة لا غيرهم
المفلحون [أي] الكاملون في الفوز بكل مراد، [قال
القشيري: وتجرد القلب من الأعراض والأملاك صفة السادة] والأكابر، ومن أسرته الأخطار وبقي في شح نفسه فهو في مصارفة معاملته ومطالبة الناس في استيفاء حظه، فليس له من مذاقات هذه الطريقة شيء.
وشرح الآية [أن] الأنصار كانوا لما قدم عليهم المهاجرون قسموا دورهم وأموالهم بينهم وبينهم، فلما أفاء الله على رسوله صلى الله عليه وسلم أموال
بني النضير خطب النبي صلى الله عليه وسلم فذكر ما صنعوا بالمهاجرين من إنزالهم إياهم
[ ص: 442 ] وأثرتهم على أنفسهم، ثم قال إن أحببتم قسمت بينكم وبين المهاجرين ما أفاء الله علي من
بني النضير ، وكان المهاجرون على ما هم عليه من السكنى في منازلكم وأموالكم، وإن أحببتم أعطيتهم وخرجوا من دياركم، فقال
السعدان رضي الله عنهما: بل يقسم بين المهاجرين خاصة ويكونون في دورنا كما كانوا، وقالت الأنصار: رضينا وسلمنا، وفي رواية [أنهم] قالوا: اقسم فيها هذه خاصة واقسم لهم من أموالنا ما شئت، فنزلت ،
ويؤثرون على أنفسهم - الآية، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
nindex.php?page=hadith&LINKID=890205اللهم ارحم الأنصار وأبناء الأنصار، وقال
nindex.php?page=showalam&ids=1أبو بكر الصديق رضي الله عنه: جزاكم الله خيرا يا معشر الأنصار ، فوالله ما مثلنا ومثلكم إلا كما قال العنزي:
جزى الله عنا جعفرا حين أزلقت ... بنا نعلنا في الواطئين فزلت
أبوا أن يملونا ولو أن أمنا
... تلاقي الذي يلقون منا لملت
فهم لعمري الحقيقون باسم إخوان الصفاء، وخلان المروءة والوفاء، والكرامة والاصطفاء، ورضي الله عنهم وعن تابعيهم من الكرام الخلفاء والسادة والحنفاء.