لما نهى سبحانه في الممتحنة عن اتخاذ عدوه وليا، وذم في الصف على المخالفة بين القول والفعل، وحذر آخر الجمعة من الإعراض عن حال من أحوال النبي صلى الله عليه وسلم على حال من الأحوال ولو مع الوفاق، لأن صورة ذلك كله صورة النفاق، قبح في أول هذه حال من أقبل عليه على حال النفاق، لأنه يكون كاليهود الذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها، واستمرت السورة كلها في ذمهم بأقبح الذم ليكون زاجرا عن كل ما ظاهره نفاق، فقال تعالى:
إذا جاءك أي يا أيها الرسول المبشر به في التوراة والإنجيل
المنافقون أي العريقون في وصف النفاق وهو إسلام الظاهر وكفر الباطن، وأغلبهم من اليهود
قالوا مؤكدين لأجل استشعارهم لتكذيب من يسمعهم لما عندهم من الارتياب:
نشهد قال
nindex.php?page=showalam&ids=14102الحسن: هو بمنزلة يمين كأنهم قالوا: نقسم
إنك - التأكيد لذلك وإيهاما لأن قوة تأكيدهم لشدة رغبتهم في مضمون ما يقولونه
لرسول الله أي الملك الذي [له] الإحاطة الكاملة، فوافقوا الحق بظاهر أحوالهم، وخالفوا بقلوبهم وأفعالهم.
[ ص: 75 ] ولما كانت الشهادة الإخبار عن علم اليقين لأنها من الشهود وهو كمال الحضور وتمام الاطلاع ومواطأة القلوب للألسنة، صدق سبحانه المشهود به وكذبهم في الإقسام بالشهادة ومواطأة ألسنتهم لقلوبهم [فقال]:
والله يعلم أي وعلمه هو العلم في الحقيقة، وأكده سبحانه بحسب إنكار المنافقين فقال:
إنك لرسوله سواء شهد المنافقون بذلك أم لم يشهدوا، فالشهادة بذلك حق ممن يطابق لسانه قلبه، وتوسط هذا بين شهادتهم وتكذيبهم لئلا يتوهم أن ما تضمنته شهادتهم من الرسالة كذب.
ولما كان ربما ظن أن هذا تأكيد لكلام المنافقين، دل على أنه تحقيق لمضمون كلامهم دون شهادتهم فقال:
والله أي المحيط بجميع صفات الكمال
يشهد شهادة هي الشهادة [لأنها محيطة] بدقائق الظاهر والباطن
إن المنافقين أي الراسخين في وصف النفاق
لكاذبون أي في إخبارهم عن أنفسهم أنهم يشهدون لأن قلوبهم لا تطابق ألسنتهم فهم لا يعتقدون ذلك، ومن شرط قول الحق أن يتصل ظاهره باطنه وسره بعلانيته، ومتى تخالف ذلك فهو كذب، لا المراد أنهم كاذبون في صحة ما تضمنته شهادتهم من أنك رسول الله
[ ص: 76 ] والحاصل أن الشهادة تتضمن شيئين: صدق مضمون الخبر والإذعان له، فصدقهم في الأول وكذبهم في الثاني فصاروا بنفاقهم أسفل حالا وشر مآلا من اليهود.
وقال الإمام
أبو جعفر بن الزبير : لما أعقب حال المؤمنين فيما خصهم الله به مما انطوت عليه الآيات الثلاث إلى صدر سورة الجمعة إلى قوله:
والله ذو الفضل العظيم بذكر حال من [لم] ينتفع بما حمل حسبما تقدم، وكان في ذلك من المواعظ والتنبيه ما ينتفع به من سبقت له السعادة، أتبع بما هو أوقع في الغرض وأبلغ في المقصود، وهو ذكر طائفة بين أظهر من قدم الثناء عليهم ومن أقرانهم وأترابهم وأقاربهم، تلبست في الظاهر بالإيمان، وأظهرت الانقياد والإذعان، وتعرضت فأعرضت وتنصلت فيما وصلت، بل عاقتها الأقدار، فعميت البصائر والأبصار، ومن المطرد المعلوم أن اتعاظ الإنسان بأقرب الناس إليه وبأهل زمانه أغلب من اتعاظه بمن بعد عنه زمانا ونسبا، فأتبعت سورة الجمعة بسورة المنافقين وعظا للمؤمنين بحال أهل النفاق، وبسط من قصصهم ما يلائم ما ذكرناه، وكان قيل لهم: ليس من أظهر الانقياد والاستجابة، ثم بني إسرائيل ثم كان فيما حمل كمثل الحمار يحمل أسفارا بأعجب من حال إخوانكم زمانا وقرابة، وأنتم أعرف الناس
[ ص: 77 ] بهم وأنهم [قد] كانوا في الجاهلية موصوفين بجودة الرأي وحسن النظر
وإذا رأيتهم تعجبك أجسامهم وإن يقولوا تسمع لقولهم ولكن المنافقين لا يفقهون قلت: وقد مر في الخطبة ما رويناه في مصنف
ابن أبي شيبة من قول أناس من المؤمنين:
nindex.php?page=hadith&LINKID=667665كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ في الجمعة بسورة الجمعة [والمنافقين] فيبشر بها المؤمنين ويحرضهم، وأما سورة المنافقين فيوئس بها المنافقين ويوبخهم، وهذا نحو ما ذكرناه أولا - انتهى.