ولما حد سبحانه ما يفعل في العدة، أتبعه ما يفعل عند انقضائها فسبب عما أمره بها فيها معبرا بأداة التحقق لأن الخطاب على تقدير الحياة، معلما أن له الرجعة إلى آخر جزء من العدة لأنها إذا ثبتت في آخرها البعيد من الطلاق كان ما قبله أولى لأنه أقرب إلى الطلاق فقال:
فإذا بلغن أي المطلقات
أجلهن أي شارفن انقضاء العدة مشارفة عظيمة
فأمسكوهن أي بالمراجعة، وهذا يدل على أن الأولى
[ ص: 148 ] من الطلاق ما دون البائن لا سيما الثلاث. ولما كان الإنسان لما له من النقصان لا يقدر على كمال الإحسان قال منكرا:
بمعروف أي حسن عشرة لا بقصد المضارة بطلاق آخر لأجل إيجاب عدة أخرى ولا غير ذلك
أو فارقوهن أي بعدم المراجعة لتتم العدة فتملك نفسها
بمعروف بإيفاء الحق مع حسن الكلام وكل أمر عرفه الشرع - أي حسنه - فلا يقصد أذاها بتفريقها من ولدها مثلا أو منه إن كانت محبة له مثلا بقصد الأذى فقط من غير مصلحة وكذا ما أشبه ذلك من أنواع الضرر بالفعل أو القول، فقد تضمنت الآية بإفصاحها الحث على فعل الخيرات وبإبهامها اجتناب المنكرات.
ولما كان كل من المرافقة والمفارقة أمرا عظيما، تبنى عليه أحكام فتحرم أضدادها، فيكون الخلاف فيها في غاية الخطر، وكان الإشهاد أليق بالمراد، وأقطع للنزاع، قال تعالى حاثا على الكيس واليقظة والبعد عن أفعال المغفلين العجزة:
وأشهدوا أي على
المراجعة أو المفارقة ذوي عدل أي مكلفين حرين ثقتين يقظين
منكم أي مسلمين وهو أمر إرشاد مندوب إليه، وعن
nindex.php?page=showalam&ids=13790الشافعي رضي الله تعالى عنه وجوبه [ في الرجعية -] والصحيح الأول، ومن
[ ص: 149 ] فوائده أن لا يموت أحدهما فيدعي الآخر الزوجية ببقاء علقة العدة ليرث.
ولما كان
أداء الشهادة يعسر على الشاهد لترك مهماته وعسر لقاء الحكم الذي يؤدي عنده، وربما بعد مكانه، وكان للعدل في الأداء عوائق أيضا، وكان الشهود من المأمورين بالإشهاد، حث على الأداء على وجه العدل بقوله:
وأقيموا أي [ أيها -] المأمورون حيث كنتم شهودا
الشهادة أي التي تحملتموها بأدائها على أكمل أحوالها كما يفعل من يريد إقامة شيء ليصير واقفا بنفسه غير محتاج إلى ما يدعمه. ولما كان ربما ميل أحد من المشهود عليهما الشاهد بشيء من المرغبات فأداها على وجهها لذلك الشيء لا لكونه الحق، قال مرغبا مرهبا
لله أي مخلصين لوجه الملك الأعلى المحيط بكل شيء علما وقدرة وهو ذو الجلال والإكرام في أدائها على وجه الحق ظاهرا وباطنا، لا لأجل المشهود له ولا المشهود عليه، ولا شيء سوى وجه الله.
ولما كانت أحكامه سبحانه وتعالى لا سيما في الكتاب المعجز مقرونة بعللها وفيها عند التأمل رقائق ودقائق تخشع لها القلوب وتجب الأفئدة في داخل الصدور قال
ذلكم أي الذي ذكرت
[ ص: 150 ] لكم أيتها الأمة من هذه الأمور البديعة النظام العالية المرام، وأولاها بذلك هنا الإشهاد وإقامة الشهادة.
ولما كانت أوامر الله تعالى وقصصه وأحكامه وجميع كلامه مختصا من [ بين -] كلام الناس بأنه يرقق القلوب ويلين الشكائم لكونه روحا لما فيه العدل الذي تهواه النفوس، وتعشقه الألباب، وتميل إليه الطبائع، وقامت به السماوات والأرض، ولما فيه أيضا من ذكر [ من -] تعشقه الفطر القويمة من جميع أهل الخير من الأنبياء والملائكة والأولياء، مع تشريف الكل بذكر الله، سمي وعظا، وبني للمجهول إشارة إلى أن الوعظ بنفسه نافع ولو لم يعرف قائله، وإلى أن الفاعل معروف أنه الله لكونه سمي وعظا مع كونه أحكاما فقال:
يوعظ به أي يلين ويرقق
من كان أي كونا راسخا، من جميع الناس
يؤمن بالله أي يوقع ويجدد منكم ومن غيركم على سبيل الاستمرار من صميم قلبه الإيمان بالملك الذي له الكمال كله.
ولما كان
البعث محط الحكمة لأن الدنيا مزرعة للآخرة، ولا يكون زرع بغير حصاد، كان خلو الإيمان عنه معدما للإيمان فقال:
واليوم الآخر فإنه المحط الأعظم للترقيق، أما من لم يكن متصفا بذلك فكأنه لقساوة قلبه ما وعظ به لأنه لم ينتفع به أبدا.
[ ص: 151 ] ولما كانت العبادة لا تكون إلا بالإعانة، وكان التقدير: فمن اتعظ بذلك كان اتعاظه شاهدا له بإيمانه بذلك، وكان متقيا، عطف عليه قوله اعتراضا بين هذه الأحكام تأكيدا للترغيب في الإعانة المترتبة على التقوى:
ومن يتق الله أي يخف الملك الأعظم فيجعل بينه وبين ما يسخطه وقاية مما يرضيه، وهو اجتلاب ما أمر به واجتناب ما نهى عنه من الطلاق وغيره ظاهرا وباطنا، وذلك صلاح قوي العلم بالإيمان والعمل بفعل المأمور به وترك المنهي عنه لأنه تقدم أن التقوى إذا انفردت في القرآن عن مقارن عمت الأمر والنهي، وإذا قرنت بغيرها نحو إحسان أو رضوان خصت المناهي:
يجعل أي الله سبحانه بسبب التقوى
له مخرجا بدفع المضار من [ كل -] ضيق أحاط به في نظير ما اجتنب من المناهي