لما ختمت تلك بأن من أعرض عنه سبحانه أهلكته ولم يغن عنه أحد، ومن أقبل عليه رفعه واستخلصه ولم يضره أحد، وختم بأنه قوى مريم عليها السلام حتى كانت في درجة الكملة ورزقها الرسوخ في الإخلاص، وكان مثل هذا لا يقدر على فعله إلا من لا كفوء له، وكان من لا كفوء له أهلا لأن يخلص له الأعمال ولا يلتفت إلى سواه بحال، لأنه الملك الذي يملك الملك قال مثيرا للهمم إلى
[ ص: 217 ] الاستبصار المثير للإرادة إلى رياضة تثمر جميع أبواب السعادة:
تبارك أي تكبر وتقدس وتعالى [ وتعاظم -] وثبت ثباتا لا مثل له مع اليمن والبركة وتواتر الإحسان والعلى.
ولما كان من له الملك قد لا يكون متمكنا من إبقائه في يده أو إعطاء ما يريد منه لغيره ونزعه منه متى أراد قال:
الذي بيده أي بقدرته وتصرفه لا بقدرة غيره
الملك أي أمر ظاهر العالم فإليه كل تدبير له وتدبير فيه وبقدرته إظهار ما يريد، لا مانع له من شيء ولا كفوء له بوجه، وهو كناية عن الإحاطة والقهر، وذكر اليد إنما هو تصوير للإحاطة ولتمام القدرة لأنها [ محلها -] مع التنزه عن الجارحة وعن كل ما يفهم حاجة أو شبها بالخلق.
وقال [ الإمام -]
أبو جعفر بن الزبير : ورود ما افتتحت به هذه السورة من التنزيه وصفات التعالي إنما يكون عقيب تفصيل وإيراد عجائب من صنعه سبحانه كورود قوله تعالى "فتبارك الله أحسن الخالقين" عقيب تفصيل التقلب الإنساني من لدن خلقه من سلالة من طين إلى إنشائه خلقا آخر وكذا كل ما ورد من هذا ما لم يرد أثناء أي قد جردت للتنزيه والإعلام بصفات التعالي [و -] الجلال.
[ ص: 218 ] ولما كان قد أوقع في آخر سورة التحريم ما فيه أعظم عبرة لمن تذكر، وأعلى آية لمن استبصر، من ذكر امرأتين كانتا تحت عبدين من عبادنا صالحين قد بعثهما الله [ تعالى رحمة لعباده -] واجتهدا في دعاء الخلق، فحرم الاستنارة بنورهما والعياذ بهداهما من لم يكن أحد من جنسهما أقرب إليهما منه ولا أكثر مشاهدة لما مدا به من الآيات وعظيم المعجزات، ومع ذلك فلم يغنيا عنهما من الله شيئا، ثم أعقبت هذه العظة بما جعل في طرف منها ونقيض من حالها، وهو ذكر امرأة فرعون التي لم يغرها مرتكب صاحبها وعظيم جرأته مع شدة الوصلة واستمرار الألفة لما سبق لها في العلم القديم من السعادة وعظيم الرحمة فقالت:
رب ابن لي عندك بيتا في الجنة وحصل في هاتين القصتين تقديم سبب رحمة حرم التمسك به أولى الناس في ظاهر الأمر وتقديم سبب امتحان عصم منه أقرب الناس إلى التورط [ فيه-] ، ثم أعقب ذلك بقصة عريت عن مثل هذين [ السببين -] وانفصلت في مقدماتها عن تينك القصتين، وهو ذكر
مريم ابنة عمران ليعلم العاقل حيث يضع الأسباب، وأن القلوب بيد العزيز الوهاب، أعقب تعالى ذلك.
بقوله الحق
تبارك الذي بيده الملك وهو على كل شيء [ ص: 219 ] قدير وإذا كان الملك سبحانه وتعالى بيده الملك فهو الذي يؤتي الملك والفضل من يشاء وينزعه ممن يشاء ويعز من يشاء ويذل من يشاء كما صرحت به الآية الأخرى في آل
عمران ، فقد اتضح اتصال سورة الملك بما قبلها ثم بنيت سورة الملك على التنبيه والاعتبار ببسط الدلائل ونصب البراهين حسبما يبسطه التفسير - انتهى.
ولما كان المتصرف في الملك قد لا يكون قدرته تامة ولا عامة قال تعالى:
وهو أي وحده له عظمة تستولي على القلوب وسياسة تعم كل جلب نفع ودفع ضرر لأنه
على كل شيء أي يمكن من يشاؤه من الملك وغيره من باطنه وهو الملكوت وغيره مما وجد وما لم يوجد
قدير أي تام القدرة، ودل على ذلك بقوله: