ولما ذكر بمصارع الأولين، وكان التذكير بالحاصب تذكيرا لقريش بما حصب به على قرب الزمان عدوهم أصحاب الفيل بما أرسل عليهم من الطير الأبابيل تحذيرا لهم من ذلك إن تمادوا على كفره، ولم ينقادوا إلى شكره، فكان التقدير تقريرا لزيادة قدرته وحسن تدبيره ولطف تربيته حيث جبر الطير لضعفها بالطيران ليكمل بعموم رحمانيته أمر معاشها تقريرا لأن بيده الملك وترهيبا من أن ينازعه
[ ص: 252 ] أحد في تدبيره مع تبقية القول مصروفا عن خطابهم، إيذانا بشدة حسابهم وسوء منقلبهم ومآبهم; ألم يروا إلى قدرتنا على مصارع الأولين وإهلاك المكذبين وإنجاء المؤمنين، عطف عليه قوله معرضا عنهم زيادة في الإنذار بالحصب من الطير وغيرها:
أولم يروا وأجمع القراء على القراءة هنا بالغيب لأن السياق للرد على المكذبين بخلاف ما في النحل.
وأشار إلى بعد الغاية بحرف النهاية فقال:
إلى الطير وهو جمع طائر.
ولما كان الجو كله مباحا للطيران نزع الجار فقال:
فوقهم وبين حال الطير في الفوقية بقوله واصفا لها بالتأنيث إشارة إلى ضعفها في أنفسها لولا تقويته لها
صافات أي باسطات أجنحتها تمدها غاية المد بحيث تصير مستوية لا اعوجاج فيها مع أنه إذا كان جماعة منها كانت صفوفا أو صفا واحدا في غاية الانتظام تابعة لإمام منها.
ولما عبر عن الصف بالاسم لأنه الأصل الثابت، عبر عن التحريك بالفعل لأن الطيران في ساحة الهواء كالسباحة في باحة الماء، والأصل في السباحة مد الأطراف وبسطها، والقبض طارئ على البسط فقال: [
ويقبضن أي يوقعن قبض الأجنحة وبسطها وقتا بعد وقت للاستراحة والاستظهار به على السبح في الهواء. ولما تم هذا التقدير على هذا الوجه الرائع للقلوب ترجمه بقوله - ]:
ما يمسكهن أي في
[ ص: 253 ] الجو في حال القبض والبسط عن السقوط على خلاف ما يقتضيه الطبع.
ولما كان هذا من التدبير المحكم الناظر إلى عموم الرحمة قال:
إلا الرحمن أي الملك الذي رحمته عامة لكل شيء بأن هيأهن - بعد أن أفاض عليهن رحمة الإيجاد - على أشكال مختلفة وخصائص مفترقة للجري في الهواء بما أوجد لها من القوادم والحوافي وغير ذلك من الهيئات المقابلة لذلك، وكذا جميع العالم لو أمسك عنه حفظه طرفة عين لفسد بتهافت الأفلاك وتداعي الجبال وغيرها، وعبر في النحل بالاسم الأعظم لأن سياقها للرد على أهل الطبائع وهم الفلاسفة الذين لا يقوم بالرد عليهم إلا المتبحر في معرفة جميع أصول الدين بمعرفة جميع معاني الأسماء الحسنى والصفات العلى التي جمعها اسم الذات.
ولما كان هذا أمرا رائعا للعقل، ولكنه لشدة الإلف صار لا يتنبه له إلا بالتنبيه، وكان الجاهل ربما ظن أن التقدير على الطيران خاص بالطير، نبه سبحانه على عظمة ما هيأ الطير له وعلى أنه يقدر أن يجعل ذلك لغيره بقوله مؤكدا لأجل قصور بعض العقول عن التصديق بذلك وتضمن الإشراك للطعن في تمام الاقتدار المتضمن للطعن في تمام العلم:
إنه أي الرحمن سبحانه
بكل شيء قل أو كثر جليل وحقير ظاهر وباطن
بصير بالغ البصر والعلم بظواهر الأشياء
[ ص: 254 ] وبواطنها، فمهما أراد كان وهو يخلق العجائب ويوجد الغرائب، فيهيئ من أراد من الآدميين وغيرهم لمثل ذلك.