ولما كان
العرب الموعوظون بهذا الذكر يتغالون في التفاخر بالهداية في الطرق المحسوسة وعدم الإخلال بشكر المعروف لمسديه ولو قل، فنفى عنهم الأول بقيام الأدلة على خطئهم الفاحش في كل ما خالفوا فيه الرسول صلى الله عليه وسلم من طريقهم المعنوي الذي اتخذوه دينا، فهو أشرف من الطريق المحسوس، أتبعه بيان انسلاخهم من [ الثاني مع التأكيد لانسلاخهم من - ] الأول، قال آمرا للرسول صلى الله عليه وسلم بتنبيههم لأن الإنسان على نوعه أقبل لأنه إليه أميل،
[ ص: 259 ] إسقاطا لهم من رتبة الفهم عن الله سبحانه وتعالى لسفول هممهم ولقصور نظرهم مع أنه جعل لهم حظا ما من الحضور بتأهيلهم لخطاب الرسول صلى الله عليه وسلم لإقامتهم بالمذكور في الآية فيما يرجى معه العلم ويورث الفطنة [و - ] الفهم:
قل أي يا أشرف الخلق وأشفقهم عليهم مذكرا لهم بما دفع عنهم الملك من المفسدات وجمع لهم من المصلحات والقوى والعقل ليرجعوا إليه، ولا يعولوا في حال من أحوالهم إلا عليه، وينظروا في لطيف صنعه وحسن تربيته فيمشي كل منهم سويا:
هو أي الله سبحانه وتعالى
الذي شرفكم بهذا الذكر وبين لكم هذا البيان وحده الذي
أنشأكم أي أوجدكم ودرجكم في مدارج التربية حيث طوركم في أطوار الخلقة في الرحم ويسر لكم بعد خروجكم [الخروج - ] اللين حيث كانت المعدة ضعيفة عن أكثف منه.
ولما كان من أعظم النعم الجليلة بعد الإيجاد العقل، أتبعه به، [وبدأ - ] بطريق تنبيهه فقال:
وجعل لكم أي خاصة مسببا عن الجسم الذي أنشأه
السمع [أي - ] الكامل لتسمعوا
[ ص: 260 ] ما تعقله قلوبكم فيهديكم، ووحده لقلة التفاوت فيه ليظهر سر تصرفه سبحانه في القلوب بغاية المفاوتة مع أنه أعظم الطرق الموصلة للمعاني إليها
والأبصار لتنظروا صنائعه فتعتبروا وتزدجروا عما يرديكم
والأفئدة أي القلوب التي جعلها سبحانه في غاية التوقد بالإدراك لما [لا - ] يدركه بقية الحيوان لتتفكروا فتقبلوا على ما يعليكم، وجمعا لكثرة التفاوت في نور الأبصار وإدراك الأفكار، وهذا تنبيه [على - ] إكمال هذه القوى في درك الحقائق بتلطيف السر لتدقيق الفكر، قال الشيخ
ولي الدين الملوي: انظر إلى الأفئدة كيف تحكم بأن الاثنين أكثر من الواحد، وأن الجسم الواحد لا يكون في مكانين في آن واحد، وأن الضدين لا يجتمعان - وغير ذلك مما لا يخفى.
ولما كان التقدير: فمشيتم مشي المكب على وجهه فلم تستعملوا شيئا من هذه الأسرار الشريفة فيما خلق له، كانت ترجمة ذلك:
قليلا وأكد المعنى بما صورته صورة النافي فقال:
ما ولما زاد تشوف النفس إلى العامل في وصف المصدر دل عليه سبحانه وتعالى بقوله:
[ ص: 261 ] تشكرون أي توقعون الشكر لمن أعطاكم ما لا تقدرون قدره باستعماله فيما خلق لأجله تدعون أنكم أشكر الناس للإحسان وأعلاهم [في - ] العرفان.