ولما دل سبحانه على بعدهم عن الهداية وعن الشكر اللذين يفخرون على الناس كافة بكل منهما، واستعطفهم بما أودع فيهم من اللطائف الربانية الروحانية المقتضية بنورانيتها للعروج إلى مواطن القدس ومعادن الأنس، دل على قدرته على حشرهم تحذيرا لهم من التمادي في الإعراض بمعنى يجده كل منهم في نفسه على وجه دال على كمال قدرته بما أودع فيهم مع تلك اللطائف مع كثائف طباع الأرض الموجبة للسفول ليكون - إذا أعلته تلك اللطائف بالتوبة - مجتهدا في تنقية آثار تلك الكثائف المسفلة كما يكون للزرع إذا حصد من بقايا تلك الجذر التي إن لم تقلع من أصلها عادت بالنبات إلى ما كان عليه الزرع أولا، فقال مستأنفا بيانا لأنه دليل برأسه كاف فيما سبق له:
قل هو أي وحده
الذي ذرأكم أي خلقكم وبثكم ونشركم وكثركم وأنشأكم بعد ما كنتم كالذر أطفالا ضعفاء، ثم قواكم ثم جعلكم شيبا ضعفاء وأسكنكم الغضب والذعر واللجاج الحامل لكم على الولوع بما يلجئ إليه الطباع المثيرة
في الأرض التي تقدم أنه ذللها لكم ورزقكم منها النبات الذي تقدم أن إبداءه منها
[ ص: 262 ] ثم رده إليها [و- ] افنائه فيها ثم إعادته كما كان بعد أن صار رفاتا وشيئا فانيا مماتا دليل على القدرة على البعث، لا فرق في ذلك بينه وبينكم أصلا، فكان منه البدأ
وإليه وحده
تحشرون شيئا فشيئا إلى البرزخ [و - ] دفعة واحدة يوم البعث على أيسر وجه بمن أراد من عباده كرها منكم كما كان أمركم في الدنيا، فإنه لم يكن إلى الإنسان منكم أحب من الدعة والسكون، فكأنه سبحانه يضطره بما أودعه من الطبائع المتضادة وأثار له من الأسباب في طلب رزقه وغير ذلك من أمره إلى السعي إلى حيث يكره، فكما أنه قدر على ذلك منكم في الابتداء فهو يقدر على مثله في الانتهاء، ليحكم بينكم ويجازي كلا على عمله كما يفعل كل ملك برعيته، وكل إنسان منكم بجماعته.