ولما كان المخاطب بهذا صلى الله عليه وسلم قد عاشر المرسل إليهم دهرا طويلا وزمنا مديدا أربعين سنة وهو أعلاهم قدرا وأطهرهم خلائق وأمتنهم عقلا وأحكمهم رأيا وأرأفهم وأرفعهم عن شوائب الأدناس همة وأزكاهم نفسا بحيث إنه لا يدعى بينهم إلا بالأمين ولم يتجدد له شيء يستحق به أن يصفوه بسببه بالجنون الذي ينشأ عنه الضلال عن المقاصد المذكور آخر الملك في قوله
فستعلمون من هو في ضلال مبين إلا النعمة التي ما نال أحد [قط - ] مثلها في دهر من الدهور ولا عصر من الأعصار، قال مجيبا هذا القسم العظيم رادا عليهم بأجلى ما يكون وأدله على المراد تأنيسا له صلى الله عليه وسلم مما أوجب افتراؤهم عليه [له - ] من الوحشة وشرحا
[ ص: 287 ] لصدره وتهدئة لسره:
ما أنت أي يا أعلى المتأهلين لخطابنا
بنعمة أي بسبب إنعام
ربك المربي لك بمثل تلك الهمم العالية والسجايا الكاملة بأن خصك بالقرآن الذي هو جامع لكل علم وحكمة، وأكد النفي زيادة في شرفه صلى الله عليه وسلم فقال:
بمجنون أي [ بل - ] الذي وصفك بهذا هو الحقيق باسم الجنون ومعناه فضلا عن الضلال الذي ردد في آخر تلك بينك وبينهم فيه سلوكا لسبيل الإنصاف لينظروا في تلك بالأدلة فيعلموا ضلالهم وهدايتك بالدليل القطعي بالنظر في الآثار المظهرة لذلك غاية الإظهار، فنفى عنه صلى الله عليه وسلم الشقاوة التي سببها [ فساد العقل فثبتت السعادة التي سببها - ] صلاح العقل ونعمة الرب له.
[ و -] قال الإمام
أبو جعفر بن الزبير : لما
تضمنت سورة الملك من عظيم البراهين ما يعجز العقول عن استيفاء الاعتبار ببعضه كالاعتبار بخلق السماوات في قوله تعالى
الذي خلق سبع سماوات طباقا أي يطابق بعضها بعضا من طابق النعل - إذا خصفها طبقا على طبق، ويشعر هذا بتساويها في مساحة أقطارها ومقادير أجرامها - والله أعلم، ووقع الوصف
[ ص: 288 ] بالمصدر يشعر باستحكام مطابقة بعضها لبعض إنباء منه سبحانه وتعالى أنها من عظم أجرامها وتباعد أقطارها يطابق بعضها [ بعضا - ] من غير زيادة ولا نقص
ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت أي من اختلاف واضطراب في الخلقة أو تناقض، إنما هي مستوية مستقيمة، وجيء بالظاهر في قوله تعالى
ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت ولم يقل: ما ترى فيه من تفاوت - ليشعر أن جميع المخلوقات جار على هذا، كل شكل يناسب شكله، لا تفاوت في شيء من ذلك ولا اضطراب، فأعطى الظاهر من التعميم ما لم يكن يعطيه الإضمار كما أشعر خصوص اسم الرحمن بما في هذه الأدلة المبسوطة من الرحمة للخلائق لمن رزق الاعتبار، ثم نبه تعالى على ما يرفع الريب ويزيح الإشكال في ذلك فقال:
فارجع البصر أي عاود الاعتبار وتأمل ما تشاهده من هذه المخلوقات حتى يصح عندك ما أخبرت به بالمعاينة ولا يبقى معك في ذلك شبهة
هل ترى من فطور أي [ من - ] صدوع وشقوق، ثم أمر تعالى بتكرير البصر فيهن متصفحا ومتمتعا هل تجد عيبا أو خللا
ينقلب إليك البصر خاسئا أي إنك إذا فعلت هذا رجع بصرك بعيدا عن إصابة الملتمس كأنه يطرد عن ذلك طردا
[ ص: 289 ] بالصغار وبالإعياء وبالكلال لطول الإجابة والترديد، وأمر برجوع البصر ليكون في ذلك استجمامه واستعداده حتى لا يقع بالرجعة الأولى [ التي - ] يمكن فيها [ الغفلة و - ] الذهول إلى أن يحسر بصره من طول [ المعاودة إذ معنى التثنية في قوله "كرتين" التكرير كقولهم: لبيك وسعديك فيحسر البصر من طول - ] التكرار ولا يعثر على شيء من فطور، فلو لم تنطو السورة على غير ما وقع من أوله إلى هنا لكان في ذلك أعظم معتبر، وأوضح دليل لمن استبصر، إذ هذا الاعتبار بما ذكر من عمومه جار في كل المخلوقات ولا يستقل بفهم مجاريه إلا آحاد من العقلاء بعد التحريك والتنبيه، فشهادته بنبوة الآتي به قائمة واضحة، ثم قد تكررت في السورة دلالات كقوله
ولقد زينا السماء الدنيا بمصابيح وقوله
ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير الآيات إلى آخر السورة، وأدناها كاف في الاعتبار فأنى يصدر بعض عن متصف ببعض ما هزئوا به في قولهم: مجنون [ و -] ساحر وشاعر وكذاب،
كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون فلعظيم ما انطوت عليه سورة الملك من البراهين اتبعت بتنزيه الآتي
[ ص: 290 ] بها
محمد صلى الله عليه وسلم عما تقوله المبطلون مقسما على ذلك زيادة في التعظيم، تأكيدا في التعزير والتكرير فقال تعالى
ن والقلم وما يسطرون ما أنت بنعمة ربك بمجنون وأنى يصح [ من مجنون -] تصور بعض تلك البراهين قد انقطعت دونها أنظار العقلاء فكيف ببسطها وإيضاحها في نسق موجز، ونظم معجز، وتلاؤم يبهر العقول، وعبارة تفوق كل مقول، تعرف ولا تدرك، وتستوضح سبلها فلا تسلك
قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله فقوله سبحانه وتعالى
ما أنت بنعمة ربك بمجنون جوابا لقوله تعالى [ في - ] آخر السورة إنه لمجنون، وتقدم الجواب بنفي قولهم والتنزيه عنه على حكاية قولهم ليكون أبلغ في إجلاله صلى الله عليه وسلم وأخف وقعا عليه وأبسط لحاله في تلقي ذلك منهم، ولهذا قدم مدحه صلى الله عليه وسلم بما خص به من الخلق العظيم، فكان هذا أوقع في الإجلال من تقديم قولهم ثم رده إذ كسر سورة تلك المقالة الشنعاء بتقديم التنزيه عنها أتم في الغرض وأكمل، ولا موضع أليق بذكر تنزيهه عليه الصلاة والسلام، ووصفه من الخلق والمنح الكريمة بما وصف مما أعقب به ذلك إذ بعض ما تضمنته
[ ص: 291 ] سورة الملك بما تقدم الإيماء إليه شاهد قاطع لكل عاقل متصف بصحة نبوته صلى الله عليه وسلم وجليل صدقه
ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا فقد تبين موقع هذه السورة هنا، وتلاؤم ما بعده من آيها يذكر في التفسير - انتهى.