ولما زهدهم في دار المتاعب والأكدار على تقدير طول البقاء؛
[ ص: 334 ] وكانوا كأنهم يرجون بترك القتال الخلود؛ أو تأخير موت يسببه القتال; نبههم على ما يتحققون؛ من أن المنية منهل لا بد من وروده؛ في الوقت الذي قدر له؛ وإن امتنع الإنسان منه في الحصون؛ أو رمى نفسه في المتالف؛ فقال (تعالى) - مبكتا من قال ذلك؛ مؤكدا بـ "ما"؛ النافية لنقيض ما تضمنه الكلام؛ لأن حالهم حال من ينكر الموت بغير القتال؛ مجيبا بحاق الجواب؛ بعدما أورد الجواب الأول على سبيل التنزل -:
أينما تكونوا ؛ أيها الناس؛ كلكم؛ مطيعكم؛ وعاصيكم؛
يدرككم الموت ؛ أي: فإنه طالب؛ لا يفوته هارب؛
ولو كنتم في بروج ؛ أي: حصون؛ برج داخل برج؛ أو كل واحد منكم في برج.
ولما كان ذلك جمعا ناسب التشديد المراد به الكثرة في:
مشيدة ؛ أي: مطولة؛ كل واحد منها شاهق في الهواء؛ منيع؛ وهو مع ذلك مطلي بالشيد؛ أي: بالجص؛ فلا خلل فيه أصلا؛ ويجوز أن يراد بالتشيد مجرد الإتقان؛ يعني أنها مبالغ في تحصينها - لأن السياق أيضا يقتضيه؛ فإذا كان لا بد من الموت فلأن يكون في الجهاد الذي يستعقب السعادة الأبدية أولى من أن يكون في غيره.
[ ص: 335 ] ثم عطف ما بقي من أقوالهم على ما سلف منها؛ في قوله:
ربنا لم كتبت ؛ إلى آخره؛ وإن كان هذا الناس منهم غير الأولين؛ ويجوز أن يقال: إنه لما أخبر أن الحذر لا يغني من القدر؛ أتبع ذلك حالا لهم؛ مبكتا به لمن توانى في أمره؛ مؤذنا بالالتفات إلى الغيبة؛ إعراضا عن خطابهم ببعض غضب؛ لأنهم جمعوا إلى الإخلال بتعظيمهم لله (تعالى) الإخلال بالأدب مع الرسول - صلى الله عليه وسلم -؛ الذي أرسله ليطاع بإذن الله؛ فقال:
وإن ؛ أي: قالوا ذلك والحال أنه إن
تصبهم ؛ أي: بعض المدعوين من الأمة؛ وهم من كان في قلبه مرض؛
حسنة ؛ أي: شيء يعجبهم؛ ويحسن وقعه عندهم؛ من أي شيء كان؛
يقولوا هذه من عند الله ؛ أي: الذي له الأمر كله؛ لا دخل لك فيها؛
وإن تصبهم سيئة ؛ أي: حالة تسوؤهم؛ من أي جهة كانت؛
يقولوا هذه من عندك ؛ أي: من جهة حلولك في هذا البلد؛ تطيرا بك.
ولما كان هذا أمرا فادحا؛ وللفؤاد محرقا؛ وقادحا؛ سهل عليه بقوله:
قل كل ؛ أي: من السيئة؛ والحسنة؛ في الحقيقة؛ دنيوية كانت أو أخروية؛
من عند الله ؛ أي: الذي له كل شيء؛ ولا شيء لغيره؛ وذلك - كما قالوا -
لما مات nindex.php?page=showalam&ids=103أبو أمامة؛ أسعد بن زرارة؛ نقيب بني النجار - رضي الله (تعالى) عنه - عندما هاجر النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ [ ص: 336 ] فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - كما في السيرة -: "بئس الميت nindex.php?page=showalam&ids=481أبو أمامة ليهود ومنافقي العرب! يقولون: لو كان نبيا لم يمت صاحبه؛ ولا أملك لنفسي ولا لصاحبي من الله شيئا"؛ ولما تسبب عن هذا معرفة أنهم أخطؤوا في ذلك؛ فاستحقوا الإنكار؛ قال - منكرا عليهم -: " فما " ؛ وحقرهم بقوله: " لهؤلاء " ؛ وكأنه قال:
القوم ؛ الذي هو دال على القيام؛ والكفاية؛ إما تهكما بهم؛ وإما نسبة لهم إلى قوة الأبدان؛ وضعف المكان؛
لا يكادون يفقهون ؛ لا يقربون من أن يفهموا؛
حديثا ؛ أي: يلقي إليهم أصلا فهما جيدا.