ولما بين [أن - ] هذه الأشياء - التي لولاها لما طاب لهم عيش ولا تهنؤوا بحياة، وهي من الفضل بحيث لا يعلمه إلا خالقها - تصغر عن أن يقسم بها على شيء من فضائل القرآن لما له من عظيم الشأن الذي لا يطيق التعبير [عنه - ] البيان، ويتضاءل دونه اللسان، قال مجيبا لذلك إخبارا عما هو محقق في نفسه الأمر أعظم من تحقق هذه الأشياء المقسم بها، هاد إلى مصالح الدارين أكثر من هدايتها، مبينا للسفيرين به الملكي والبشري عليهما الصلاة والسلام والتحية والإكرام مؤكدا لما يستحقه السياق كما يستحقه مع ما لهم من الإنكار تنبيها على ضعف عقولهم
[ ص: 288 ] وعظيم سفههم بعد أن أقسم بثلاثة أقسام، فإن نفي الإقسام [ بها بما ذكر من نقائصها - كالإقسام - ] بها مع بيان [أن - ] المقسم عليه أعظم منها بما لا يقايس:
إنه أي هذا الذكر الذي تقدم في عبس بعض ما يستحق من الأوصاف الجميلة والنعوت الجليلة
لقول رسول وهو
جبريل عليه الصلاة والسلام نحن أرسلناه به إلى خير خلقنا وجعلناه بريدا بيننا وبينه لاقتضاء الحكمة ذلك، وهي أن يكون خلاصة الخلق ذا جهتين: واحدة ملكية يتلقى بها من الملائكة عليهم السلام لكون غيره من البشر لا يطيق ذلك، وأخرى بشرية يتلقى بها من المبعوث إليهم، ومن المعلوم أن الرسول إنما وظيفته تبليغ ما أرسل به فهو سفير محض، والذي أوحاه وإن كان قوله لكونه نطق به وبلغه من غير مشاركة شيطان ولا غيره هو قول الله من غير شك لكونه معبرا عن الصفة القديمة النفسية، ولو كان قول الرسول مستقلا [به - ] لما كان لوصفه بالرسالة مدخل فما كانت البلاغة تقتضي ذكره بالوصف.
ولما بين بوصف الرسالة أنه ليس بقوله إلا لكونه مرسلا به ومبلغا له، وأنه في الحقيقة قول من أرسله، وصفه بما أفهمه الوصف مما يوجب حفظه من غير تحريف ما ولا تغيير أصلا بوجه من الوجوه،
[ ص: 289 ] وذلك ببيان منزلته عند الله ووجاهته وبيان قدره ونفوذ كلمته فقال:
كريم أي انتفت عنه وجوه المذام كلها وثبتت له وجوه المحامد كلها، فهو جواد شريف النفس ظاهر عليه معالي الأخلاق بريء من أن يلم شيء [ من اللوم - ] بساحته، فلذلك هو يفيض الخيرات بإذن ربه على من أمر به العالمين، فيؤدي ما أرسل به كما هو لقيامه بالرسالة قيام الكرام فلم يغير فيها شيئا أصلا ولا فرط حتى يمكن غيره أن يحرف أو يغير، والكرم اجتماع كمالات الشيء اللائقة به.