ولما دلت التسوية على مجيء أمر عظيم، فإن العادة في الدنيا أن الطرق لا تعم بالكنس أو الرش أو التسوية إلا لحضور عظيم كالسلطان، قال متلطفا بالمخاطب من أواخر سورة البروج إلى هنا بذكر صفة الإحسان على وجه يفتت أكباد أضداده:
وجاء ربك أي أمر المحسن إليك بإظهار رفعتك العظمى في ذلك اليوم الأعظم لفصل القضاء بين العباد
[ ص: 38 ] بشفاعتك
والملك أي هذا النوع حال كون الملائكة مصطفين
صفا صفا أي موزعا اصطفافهم على أصنافهم، كل صنف صف على حدة، ويحيط أهل السماء الدنيا بالجن والإنس، وأهل كل سماء كذلك، وهم على الضعف ممن أحاطوا به حتى يحيطوا أهل السماء السابعة بالكل وهم على الضعف من جميع من أحاطوا به من الخلائق، ومعنى مجيئه سبحانه وتعالى بعد أن ننفي عنه أن يشبه مجيء شيء من الخلق لأنه سبحانه وتعالى ليس كمثله شيء في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله، فإذا صححنا العقد في ذلك في كل ما كان من المتشابه قلنا في هذا إنه مثل أمره سبحانه وتعالى في ظهور آيات اقتداره وتبيين آثار قدرته وقهره وسلطانه يحال الملك إذا حضر بنفسه فظهر بحضوره من آثار الهيبة والسياسة ما لا يظهر بظهور عساكره كلها خالية عنه، فمجيئه عبارة عن حكمه وإظهار عظمته وبطشه وكل ما يظهره الملوك إذا جاءوا إلى مكان، وهو سبحانه وتعالى شأنه حاضر مع المحكوم بينهم بعلمه وقدرته، لم يوصف بغيبة أصلا أزلا و[لا] أبدا، فحضوره في [ذلك] الحال وبعده كما كان قبل ذلك من غير فرق أصلا ولم يتجدد شيء
[ ص: 39 ] غير تعليق قدرته على حسب إرادته بالفصل بين الخلق، ولو غاب في وقت أو أمكنت غيبته بحيث يحتاج إلى المجيء لكان محتاجا، ولو كان محتاجا لكان عاجزا، ولو عجز أو أمكن عجزه في حال من الأحوال لم يصلح للإلهية - تعالى الله عما يقول الظالمون والجاحدون علوا كبيرا، وفي تكرير "صفا" تنبيه على صرف المجيء عن حقيقته وإرشاد إلى ما ذكرت من التمثيل.