[ ص: 149 ] ولما صح أن تارك الظالم بغير انتقام والمحسن بلا إكرام ليس [على] منهاج العدل الذي شرعه الله تعالى، حسن جدا تكرير الإنكار بقوله سبحانه وتعالى:
أليس الله أي على ما له من صفات الكمال، وأكده بالجار في قوله:
بأحكم الحاكمين أي حتى يدع الخلق يهلك بعضهم بعضا من غير جزاء، فيكون خلقهم عبثا، بل هو أحكم الحاكمين علما وقدرة وعدلا وحكمة بما شوهد من إبداعه الخلق ومفاوتته بينهم، وجعل الإنسان من بينهم على أحسن تقويم، فلا بد أن يقيم الجزاء ويضع الموازين القسط ليوم القيامة فيظهر عدله وحكمته وفضله، وهذا الآخر هو أولها قسما من جهة النبوات التي ظهر بها حكمه وحكمته، ومقسما عليه من حيث إن الخلق في أحسن تقويم يقتضي العدل لا محالة، والرد أسفل سافلين يتقاضى الحكم حتما لأجل ما يقع من الظلم والتشاجر بين من استمر على الفطرة القويمة ومن رد لأسفل سافلين، وقد اشتملت هذه السورة على وجازتها على جميع مقاصد التوراة إجمالا، وزادت الدلالة على الآخرة، وذلك أن قسمها هو قوله في التوراة "أتانا ربنا من
سيناء وشرق بنا من
جبل ساعر، وظهر لنا من
جبال فاران " والخلق في [أحسن] تقويم هو خلق آدم
[ ص: 150 ] عليه الصلاة والسلام المذكور في أولها وخلق زوجه وما يحتاجان إليه من السماء والأرض، وخلق الأصفياء من أولادهما وما جاؤوا به من الخير، والذين آمنوا وعملوا الصالحات هو ما فيها من الشرائع والأحكام، وقوله بعد ما تقدم من المعبر بالمقسم عنه "معه ربوات الأطهار عن يمينه أعطاهم وحببهم إلى الشعوب، وبارك على جميع أطهاره" والرد أسفل سافلين هو ما ذكر أولها من العصاة من قابيل ومن بعده إلى آخرها، على ما أشار إليه من عصيان بني إسرائيل الموجب للعنهم، فقد اكتنفت بأول التوراة وآخرها وأوسطها، وابتدأ بآخرها لأنه في النبوات، وهي أهم المهم لأنها المنجية من شر قطاع الطريق، وآخرها أدل ما فيها على النبوات لا سيما الثلاث [العظام -] المشار إليه بقسم هذه السورة - والله سبحانه وتعالى أعلم بالغيب.