لما أمره سبحانه وتعالى في الضحى بالتحديث بنعمته، وذكره بمجامعها في
ألم نشرح فأنتج ذلك إفراده بما أمره به في ختمها من تخصيصه بالرغبة إليه، فدل في الزيتون على أنه أهل لذلك لتمام قدرته الذي يلزم منه أنه لا قدرة لغيره إلا به، فأنتج ذلك تمام الحكمة فأثمر قطعا البعث للجزاء فتشوف السامع إلى ما يوجب حسن الجزاء في ذلك اليوم وبأي وسيلة يقف بين يدي الملك الأعلى في يوم الجمع الأكبر من خصال الذين آمنوا وعملوا الصالحات، فأرشد إلى ذلك في هذه السورة، فقال بادئا بالتعريف بالعلم الأصلي ذاكرا أصل من خلقه سبحانه وتعالى في أحسن تقويم وبعض أطواره الحسنة والقبيحة تعجيبا من تمام قدرته سبحانه وتعالى وتنبيها على تعرفها وإنعام النظر فيها، وقدم الفعل العامل في الجار والمجرور هنا لأنه أوقع في النفس لكونها أول ما نزل فكان الأمر بالقراءة أهم:
اقرأ وحذف مفعوله إشارة إلى أنه لا قراءة إلا بما أمره به، وهي الجمع الأعظم، فالمعنى: أوجد القراءة لما لا مقروء غيره، وهو القرآن الجامع لكل خير، وأفصح له بأنه لا يقدر
[ ص: 153 ] على ذلك إلا بمعونة الله الذي أدبه فأحسن تأديبه، ورباه فأحسن تربيته، فقال ما أرشد المعنى إلى [أن] تقديره: حال كونك مفتتحا القراءة
باسم ربك أي بأن تبسمل، أو مستعينا بالمحسن إليك لما له من الأسماء الحسنى والصفات العلى بما خصك به في
ألم نشرح أو بذكر اسمه، والمراد على هذا بالاسم الصفات العلى، وعبر به لأنه يلزم من حسن الاسم حسن مدلوله، ومن تعظيم الاسم تعظيم المسمى وجميع ما يتصف به وينسب إليه، قالوا: وهذا يدل على أن
القراءة لا تكون تامة إلا بالتسمية ، ولكونه في سياق الأمر بالطاعة الداعي إليها تذكر النعم لم يذكر الاسم الأعظم الجامع، وذكر صفة الإحسان بالتربية الجامع لما عداه وتأنيسا له صلى الله عليه وسلم لكونه أول ما نزل حين حبب إليه الخلاء، فكان يخلو بنفسه يتعبد بربه في غار حراء، فجاءه
جبريل عليه الصلاة والسلام بخمس آيات من أول هذه السورة إلى قوله
ما لم يعلم ولهذا السر ساقه مساق البسملة بعبارة هي أكثر تأنيسا في أول الأمر وأبسط منها، فأشار إلى الاسم الأعظم بما في مجموع الكلام من صفات الكمال، وأشار إلى عموم منة الرحمن بصفة الخلق المشار إلى تعميمها بحذف المفعول، وإلى خصوص صفة الرحيم بالأكرمية التي من شأنها
[ ص: 154 ] بلوغ النهاية، وذلك لا يكون بدون إفاضة العمل بما يرضي، فيكون سببا للكرامة الدائمة، وبالتعليم الذي من شأنه أن يهدي إلى الرضوان، وأشار إلى الاستعاذة بالأمر بالقرآن لما أفهمه قوله سبحانه وتعالى:
وإذا قرأت القرآن جعلنا بينك وبين الذين لا يؤمنون بالآخرة [أي من شياطين الإنس والجن-]
حجابا مستورا وقوله تعالى:
فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم
ولما خصه تشريفا بإضافة هذا الوصف الشريف إليه، وصفه على جهة العموم بالخلق والأمر إعلاما بأن له التدبير والتأثير، وبدأ بالخلق لأنه محسوس بالعين، فهو أعلق بالفهم، وأقرب إلى التصور، وأدل على الوجود وعظيم القدرة وكمال الحكمة، فكانت البداءة به في هذه السورة التي هي أول ما نزل أنسب الأمور لأن
أول الواجبات معرفة الله ، وهي بالنظر إلى أفعاله في غاية الوضوح فقال:
الذي خلق وحذف مفعوله إشارة إلى أنه له هذا الوصف وهو التقدير والإيجاد على وفق التقدير الآن وفيما يكون، فكل شيء يدخل في الوجود فهو من صنعه ومتردد بين إذنه ومنعه وضره ونفعه.