[ ص: 155 ] ولما كان الحيوان أكمل المخلوقات، وكان الإنسان أكمل الحيوان وزبدة مخضه، ولباب حقيقته وسر محضه، وأدل على تمام القدرة لكونه جامعا لجميع ما في الأكوان، فكان خلقه أبدع من خلق غيره، فكان لذلك أدل على كمال الصانع وعلى وجوب إفراده بالعبادة، خصه فقال:
خلق الإنسان أي هذا الجنس الذي من شأنه الأنس بنفسه وما رأى ما أخلاقه وحسه، وما ألفه من أبناء جنسه.
ولما كانت العرب تأكل الدم، وكان الله تعالى قد حرمه لأنه أصل الإنسان وغيره من الحيوان وهو مركب الحياة، فإذا أكل تطبع آكله بخلق ما هو دمه، قال معرفا بأنه سبحانه وتعالى بنى هذه الدار على حكمة الأسباب مع قدرته على الإيجاد من غير تطوير في تسبيب:
من علق أي [خلق] هذا النوع من هذا الشيء وهو دم شديد الحمرة جامد غليظ، جمع علقة، وكذا الطين الذي يعلق باليد يسمى علقا، وهم مقرون بخلق الآدمي من الأمرين كليهما، فالآية من أدلة إمامنا
nindex.php?page=showalam&ids=13790الشافعي رضي الله تعالى عنه على استعمال المشترك في معنييه، ولعله عبر به ليعم الطين فيكون - مع ما فيه من الإشارة إلى بديع الصنعة - إشارة إلى حرمة أكل ما هو أصلنا من الدم والتراب قبل أن يستحيل، فإذا
[ ص: 156 ] استحال وصف بالحلال لأن الاستحالات لها مدخل في الإحلالات في النكاح وغيره ، واحمرار النطفة ليس استحالة لأنها كانت حمراء قبل قصر الشهوة لها، وربما ضعفت الشهوة عن قصرها فنزلت [حمراء]، فإذا تحول الدم لحما صار إلى جنس ما يحل، وكذا إذا تحول التراب بمخالطة الماء تمرا أو حبا حل.
وقال الإمام
أبو جعفر بن الزبير : لما قال الله سبحانه وتعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم
فما يكذبك بعد بالدين أليس الله بأحكم الحاكمين وكان معنى ذلك: أي شيء حمل عل هذا بعد وضوح الأمر لك وبيانه وقد نزهه سبحانه وتعالى عن التكذيب بالحساب وأعلى قدره عن ذلك، ولكن سبيل مثل هذا إذا ورد كسبيل قوله تعالى:
لئن أشركت ليحبطن عملك وبابه، وحكم هذا القبيل واضح في حق من تعدى إليه الخطاب وقصد بالحقيقة به من أمته صلى الله عليه وسلم من حيث عدم عصمتهم وإمكان تطرق الشكوك والشبهة إليهم، فتقدير الكلام: أي شيء يمكن فيه أن يحملكم على التوقف أو التكذيب بأمر الحساب، وقد وضح لكم ما يرفع الريب ويزيل الإشكال، ألم تعلموا أن ربكم أحكم الحاكمين؟ أفيليق به وهو العليم الخبير أن يجعل اختلاف أحوالكم في
[ ص: 157 ] الشكوك بعد خلقكم في أحسن تقويم؟ أفيحسن أن يفعل ذلك عبثا؟ وقد قال تعالى:
وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما باطلا فلما قرر سبحانه العبيد على أنه أحكم الحاكمين مع ما تقدم ذلك من موجب نفي الاسترابة في نوع الحق إذا اعتبر ونظر، ووقعت في الترتيب سورة العلق مشيرة إلى ما به يقع [الشفاء]، ومنه يعلم الابتداء والانتهاء، وهو كتابه المبين، الذي جعله الله تعالى تبيانا لكل شيء وهدى ورحمة وبشرى للمحسنين، فأمر بقراءته ليتدبروا آياته فقال
اقرأ باسم ربك مستعينا به فسوف يتضح سبيلك وينتهج دليلك
تبارك الذي نـزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا وأيضا فإنه تعالى أعلم عباده بخلقه الإنسان في أحسن تقويم
ثم رددناه أسفل سافلين وحصل منه على ما قدم بيانه افتراق الطرفين وتباين القائلين، كل ذلك بسابق حكمته وإرادته
ولو شئنا لآتينا كل نفس هداها وقد بين سبحانه لنا أقصى غاية ينالها أكرم خلقه وأجل عباده لديه من الصنف الإنساني، وذلك فيما أوضحت السورتان قبل من حال نبينا المصطفى صلى الله عليه وسلم وجليل وعده الكريم له في قوله
ولسوف يعطيك ربك فترضى وفضل حال ابتداء
ألم نشرح على تقدم سؤال
رب اشرح إلى ما أشارت إليه آي السورتين من خصائصه الجليلة، وذلك أعلى مقام يناله أحد ممن ذكر، فوقع [تعقيب -] ذلك بسورة
[ ص: 158 ] تضمنت الإشارة إلى حال من جعل في الظرف الآخر من الجنس الإنساني، وذلك حال من أشير إليه من لدن قوله تعالى:
أرأيت الذي ينهى عبدا إذا صلى إلى قوله:
كلا لا تطعه ليظهر تفاوت المنزلتين وتباين ما بين الحالتين، وهي العادة المطردة في الكتب، ولم يقع صريح التعريف هنا كما وقع في الظرف الآخرة ليطابق المقصود، ولعل بعض من لم يتفطن يعترض هنا بأن هذه السورة من أول ما أنزل فكيف يستقيم مرادك من ادعاء ترتيبها على ما تأخر [عنها] نزولا، فنقول له: وأين غاب اعتراضك في عدة سور مما تقدم بل في معظم ذلك، وإلا فليست سورة البقرة من المدني، ومقتضى تأليفنا هذا بناء ما بعدها من السور على الترتيب الحاصل في مصحف الجماعة إنما هو عليها وفيها بعد من المكي ما لا يحصى، فإنما غاب عنك نسيان ما قدمناه في الخطبة من أن ترتيب السور ما هي عليه راجع إلى فعله عليه الصلاة والسلام أكان ذلك بتوقيف منه أو باجتهاد الصحابة رضي الله عنهم على ما قدمناه، فارجع بصرك، وأعد في الخطبة نظرك، والله يوفقنا إلى اعتبار بيناته وتدبر آياته، ويحملنا في ذلك على ما يقربنا إليه بمنه وفضله - انتهى.