لما أخبره في الكوثر أن العريق في شنآنه عدم، وجب أن يعرض [عنه -] ويقبل بكليته على من أنعم عليه بذلك، فقال معلما له ما يقول ويفعل:
قل ولما كان شائنه أعرق الخلق في الضلال والبعد من الخير، قال مناديا له بأداة البعد وإن كان حاضرا معبرا بالوصف
[ ص: 302 ] المؤذن بالرسوخ:
يا أيها الكافرون أي الذين قد حكم بثباتهم على الكفر، فلا انفكاك لهم عنه فستروا ما تدل عليه عقولهم من الاعتقاد الحق لو جردوها من أدناس الحظ، وهم كفرة مخصوصون وهم من حكم بموته على الكفر بما طابقه من الواقع، وبما دل عليه التعبير بالوصف دون الفعل، واستغرقت اللام كل من كان على هذا الوصف في كل مكان وكل زمان، وإنما عبر بالجمع الذي هو أصل في القلة وقد يستعار للكثرة إشارة إلى البشارة بقلة المطبوع على قلبه من العرب المخاطبين بهذا في حياته صلى الله عليه وسلم وإشارة إلى
حقارة الكافر وذلته وإن كان كثيرا - كما يشير إليه جعل كل كلمة منها بحرف من الكوثر كما سيأتي، وفي مناداتهم بهذا الوصف الذي يسترذلونه في بلدتهم ومحل عزهم وحميتهم إيذان بأنه محروس منهم علما من أعلام النبوة.
وقال [الإمام -]
أبو جعفر بن الزبير : لما انقضى ذكر الفريقين المتردد ذكرهما في الكتاب العزيز من أوله إلى آخره على اختلاف أحوال كل فريق وشتى درجاتهم، وأعني بالفريقين من أشير إليه في قوله سبحانه وتعالى:
اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم فهذا طريق أحد الفريقين، وفي قوله:
غير المغضوب عليهم ولا الضالين [ ص: 303 ] إشارة إلى طريق من كان في الطرف الآخر من حال أولئك الفريق إذ ليس إلا طريق السلامة أو طريق الهلاك
فريق في الجنة وفريق في السعير فمنكم كافر ومنكم مؤمن والسالكون طريق السلامة فأعلى درجاتهم مقامات الرسل والأنبياء عليهم الصلاة والسلام، ثم يليهم أتباعهم من صالحي العباد وعلمائهم العاملين وعبادهم وأهل الخصوص منهم والقرب من أحوال من تنسك منهم، ورتبتهم مختلفة وإن جمعهم جامع وهو قوله:
فريق في الجنة وأما أهل التنكب عن هذا الطريق وهم الهالكون فعلى طبقات أيضا، [و] يضم جميعهم طريق واحد فكيفما تشعبت الطرق فإلى ما ذكر من الطريقين [مرجعهما -]، وباختلاف سبل الجميع عرفت أي الكتاب وفصلت، ذكر كله تفصيلا لا يبقى معه ارتياب لمن وفق، فلما انتهى ذلك كله بما يتعلق به، وتداولت بيانه الآي من لدن قوله بعد أم القرآن
هدى للمتقين إلى قوله:
إن شانئك هو الأبتر أتبع ذلك بالتفاصيل والتسجيل فقال تعالى:
قل يا أيها الكافرون فبين سبحانه أن من قضي عليه بالكفر والوفاة عليه لا سبيل له إلى خروجه عن ذلك، ولا يقع منه الإيمان أبدا
ولو أننا نزلنا إليهم الملائكة وكلمهم الموتى وحشرنا عليهم كل شيء قبلا [ ص: 304 ] ما كانوا ليؤمنوا إلا أن يشاء الله ولو أنهم بعد عذاب الآخرة ومعاينة العذاب والبعث وعظيم تلك الأهوال وسؤالهم الرجوع إلى الدنيا وقولهم:
ربنا أخرجنا نعمل صالحا غير الذي كنا نعمل فلو أجيبوا إلى هذا ورجعوا لعادوا إلى حالهم الأول
ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه تصديقا لكلمة الله وإحكاما لسابق قدره
أفمن حق عليه كلمة العذاب أفأنت تنقذ من في النار فقال لهم:
لا أعبد ما تعبدون ولا أنتم عابدون ما أعبد إلى آخرها، فبان أمر الفريقين وارتفع الإشكال، واستمر كل [على -] طريقه
فلا تذهب نفسك عليهم حسرات إن عليك إلا البلاغ فتأمل موقع هذه السورة وأنها الخاتمة لما قصد في الكتاب يلح لك وجه تأخيرها - والله أعلم - انتهى.