ولما كان ذلك كله، وبدأ النفي في الجمل السابقة بالمنسوب إليه صلى الله عليه وسلم إيذانا بالاهتمام ببراءته منهم، أنتج قطعا مقدما لما يتعلق بهم على وجه اختصاصهم به تأكيدا لما صرح به ما مضى من براءته منهم:
لكم أي خاصة
دينكم أي الذي تعلمون أنه لا أصل له يثبت عليه، ولا دليل يرجع بوجه إليه، لا أشارككم فيه بوجه ولا ترجعون عنه بوجه بل تموتون عليه موتا لبعضكم حتف الأنف والآخرين قتلا على يدي بالسيف
ولي أي خاصة
دين من واسع روضة الإسلام إلى [أعلى -] مقام: [مقام -] الإيقان والإحسان، وأنتم تعلمون - لو جردتم عقولكم عن الهوى وأخلصتم أفكاركم من الحمية والإبا - أنه كله دليل وفرقان ونور وحجة وبرهان، لا تشاركونني فيه بوجه، ولا تقدرون على ردي عنه أصلا، فكانت هذه علما
[ ص: 309 ] من أعلام النبوة من حيث إنه مات منهم ناس كثير بعد ذلك على الكفر وأتم الله له هذا الدين، فصدق سبحانه فيما قال، وثبت مضمون الكوثر بأكمل استدلال، وأما من آمن بعد ذلك فليس مرادا لأنه لم يكن عريقا في وصف الكفران، ولا راسخا في الضلال والطغيان، فأسعده وصف الإسلام والإيمان، وساق الجمل كلها غير مؤكد إشارة إلى أنها من الوضوح في حد لا خفاء به أصلا، ولا شك أن آخرها الذي هو اختصاص كل بدينه هو أولها الذي أفاد أنه لا يعبد معبودهم ولا يعبدون معبوده فصار آخرها أولها، ومفصلها موصلها - هذا هو الذي دل عليه السياق، وليس فيه إذن في الكفر ولا منع عن الجهاد ليحتاج إلى نسخ، ومن أعظم الدلائل إعجازها وجمعها للمعاني في إشارتها وإيجازها أن حاصلها قطع رجاء أهل الكفران من أن يقاربهم النبي صلى الله عليه وسلم في أن يعدل بربه أحدا في زمن من الأزمان، وذلك من أعظم مقاصد المناظرة لها في رد الآخر على [أول -] الأنعام لأنها السادسة في العد من الأول، كما أن هذه السادسة في العد من الآخر
أغير الله أتخذ وليا أفغير الله أبتغي حكما أغير الله أبغي ربا وهو [ ص: 310 ] رب كل شيء إلى غير ذلك من الآيات، والفواصل والغايات، هذا ما يتعلق بمعاني تراكيبها ونظومها على [ما -] هي عليه وتراتيبها وسياقاتها وأساليبها، وكلماتها الخطية سبع وعشرون إلى أربع كلمات البسملة إحدى وثلاثون إلى أربعة ضمائر مستترة خمس وثلاثون إلى تسعة بارزة، فتلك أربع وأربعون كلمة الضمائر منها ثلاثة عشر هي مدة الإقامة بمكة المشرفة قبل الهجرة لأنها في الخفاء كالضمائر في خزائن السرائر، ولا سيما الأربع الأول منها الموازية لضمائر الاستتار وغير الضمائر إحدى وثلاثون المناظر لها من السنين سنة إحدى وثلاثين، وهي سنة قتل
يزدجرد ملك الفرس أكفر الكفرة من أهل ذلك الزمان وأعتاهم، وموافقة كلماتها في العدة لأحرف الكوثر مشيرة إلى أن اليسير من أتباعه صلى الله عليه وسلم أكثر وأكبر من كثير شانئيه وأضداده وحاسديه، وقد دل على ذلك شاهد الوجوه في يوم الفتح .والمسلمون عشرة آلاف، والكفار من قريش وممن حولهم لا يحصون كثرة، وقد كان فعلهم في ذلك اليوم ما شهد به اعتذار حماس الذي كان يعد امرأته أن يخدمها بعض المسلمين في قوله وقد فر هاربا ولم يستطع أن يغلق وراءه، بل قال
[ ص: 311 ] [لها -]: أغلقي بابي، فقالت [له -]: أين ما كانت تعدني به؟ فقال:
إنك لو شهدت يوم الخندمه ... إذ فر صفوان وفر عكرمة
واستقبلتهم بالسيوف المسلمه
... يقطعن كل ساعد وجمجمه
ضربا فلا يسمع إلا غمغمه
... بهم تهيب خلفنا وهمهمه
لم تنطقي باللوم أدنى كلمه
هذا مع [أن -] النبي صلى الله عليه وسلم كان أوصاهم ألا يقاتلوا إلا من بدأهم بالقتال. وهذا مع ما كان من أهل الإسلام حين قصدهم الكفار يوم الخندق والمشركون [في -] عشرة آلاف وهم لا يبلغون ربعهم ولا مدد لهم ممن حولهم ولا ناصر إلا الله، بل جاءتهم الأعداء - كما قال الله تعالى:
من فوقكم ومن أسفل منكم وما زادهم إلا إيمانا وتسليما وإلى هذا أيضا أشار بلوغ عدد كلمات النصر خطيها واصطلاحيها ظاهرها ومستترها إلى عدد كلمات الكافرون الخطية، فذلك رمز إلى أن أضعف أهل الإسلام لا يضعف عن مقاومة أهل الكفر وأرسخهم في كل صفة يريدها - والله هو الموفق.