ولما بين هذا من عظمته أتبعه أمرا آخر أعظم منه؛ فقال:
ورفعنا ؛ أي: بعظمتنا; ولما كان قد ملأ جهة الفوق بأن وارى جميع أبدانهم؛ ولم يسلم أحد منهم من ذلك; نزع الجار؛ فقال:
فوقهم الطور ؛ أي: الجبل العظيم؛ ثم ذكر سبب رفعه؛ فقال:
بميثاقهم [ ص: 457 ] ؛ أي: حتى التزموه؛ وأذعنوا له؛ وقبلوه.
ولما ذكر الميثاق على هذا الوجه العجيب؛ أتبعه ما نقضوا فيه؛ على سهولته؛ دليلا على سوء طباعهم؛ فقال:
وقلنا لهم ؛ أي: بما تكرر لهم من رؤية عظمتنا؛
ادخلوا الباب ؛ أي: الذي
لبيت المقدس؛ سجدا ؛ أي: فنقضوا ذلك العهد الوثيق؛ وبدلوا؛
وقلنا لهم ؛ أي: على لسان
موسى - عليه الصلاة والسلام - في كثير من التوراة؛
لا تعدوا ؛ أي: لا تتجاوزوا ما حددناه لكم؛
في السبت ؛ أي: لا تعملوا فيه عملا من الأعمال - تسمية للشيء باسم سببه -؛ سمي "عدوا"؛ لأن العالم للشيء يكون لشدة إقباله عليه كأنه يعدو؛
وأخذنا منهم ؛ أي: في جميع ذلك؛
ميثاقا غليظا ؛ وإنما جزمت بأن المراد بهذا - والله (تعالى) أعلم - على لسان
موسى - عليه الصلاة والسلام -؛ لأنه (تعالى) كرر التأكيد عليهم في التوراة في حفظ السبت؛ وأوصاهم به؛ وعهد إليهم فيه ما قل أن عهده في شيء من الفروع غيره؛ قال بعض المترجمين للتوراة؛ في السفر الثاني؛ في العشر الآيات التي أولها: (أنا إلهك الذي أصعدتك من أرض
مصر؛ من العبودية والرق؛ لا يكون لك إله غيري)؛ ما
[ ص: 458 ] نصه: (اذكر حفظ يوم السبت؛ وطهره ستة أيام؛ كد فيها؛ واصنع جميع ما ينبغي لك أن تصنعه؛ واليوم السابع سبت الله ربك؛ لا تعملن فيه شيئا من الأعمال أنت؛ وابنك؛ وابنتك؛ وعبدك؛ وأمتك؛ ودوابك؛ والساكن في قراك؛ لأن الرب خلق السماوات والأرض في ستة أيام؛ والبحور وجميع ما فيها؛ واستراح في اليوم السابع؛ ولذلك بارك الله اليوم السابع؛ وقدسه؛ أكرم أباك)؛ إلى آخر ما مر في سورة "البقرة"; ثم عاد العشر الآيات في أوائل السفر الخامس؛ وقال - في السبت -: (احفظوا يوم السبت وظهوره؛ كما أمركم الله ربكم؛ واعملوا الأعمال في ستة أيام؛ كما أمركم الله ربكم؛ واعملوا الأعمال في ستة أيام؛ فاصنعوا ما أردتم أن تصنعوا فيها؛ فأما يوم السبت فأسبوع ربكم؛ لا تعملوا فيه عملا أنتم؛ وبنوكم؛ وعبيدكم؛ وإماؤكم؛ وثيرانكم؛ وحميركم؛ وكل بهائمكم؛ والساكن الذي في قراكم؛ ليستريح عبيدكم)؛ إلى آخر ما في أوائل هذه السورة؛ عند:
ويهديكم سنن الذين من قبلكم ؛ وقال في الثاني بعد ذلك: (وقال الرب
لموسى: وأنت فأمر بني إسرائيل أن تحفظوا السبوت؛ لأنها أمارة العهد؛ وعلامة فيما بيني وبينكم لأحقابكم؛ فتعلموا أني أنا الرب؛ إلهكم؛ مقدسكم؛ احفظوا يوم السبت
[ ص: 459 ] فإنه مطهر مخصوص لكم؛ ومن نقضه وأخذ العمل فيه فليقتل؛ ومن عمل عملا فليهلك ذلك الإنسان من شعبه؛ اعملوا أعمالكم ستة أيام؛ واليوم السابع فهو يوم سبت قدس للرب؛ لأن الرب خلق السماوات والأرض في ستة أيام؛ والبحور وما فيها؛ وهذا في اليوم السابع؛ ودفع إلى
موسى - عليه الصلاة والسلام - لما فرغ كلامه له في
طور سيناء لوحي الشهادة)؛ وأبلغ في تأكيد حفظه عليهم في غير ذلك من المواضع؛ حتى إنه شرع لهم أسباب الأرض؛ ونحوها؛ فقال في السفر الثاني أيضا: (ازرع أرضك ست سنين؛ واحمل أثقالها؛ وفي السنة السابعة ابذرها؛ ودعها فيأكل مسكين شعبك؛ وما يبقى بعد ذلك يأكله حيوان البر؛ وكذلك فافعل بكرومك وزيتونك؛ اعمل عملك في ستة أيام؛ وفي اليوم السابع تستريح؛ لكي يستريح ثورك؛ وحمارك؛ وتستريح أمتك وابن أمتك؛ والساكن في قراك)؛ ثم ذكر الأعياد في السفر الثالث؛ وحرم العمل فيها; وقال - في بعضها -: (وكل نفس تعمل عملا في هذا اليوم تهلك تلك النفس من شعبها؛ فلا تعملوا فيه عملا؛ لأنه سنة جارية لكم إلى الأبد؛ في جميع مساكنكم؛ فليكن هذا اليوم سبت السبوت); ثم أمرهم بعيد المظال سبعة أيام؛ وقال: (ليعلم أحقابكم أنني
[ ص: 460 ] أجلست بني إسرائيل في المظال؛ حيث أخرجتهم من أرض
مصر)؛ ثم ذكر بعض القرابين؛ وقال: (ويصف
هارون الخبز صفين في اليوم السادس؛ وهو يوم الجمعة؛ ويكون ذلك من عيد بني إسرائيل; وكلم الرب
موسى؛ وقال له في
طور سيناء: كلم بني إسرائيل؛ وقل لهم: إذا دخلتم الأرض التي أعطيكم ميراثا تسبت الأرض سبتا للرب؛ ازرعوا مزارعكم ست سنين؛ واكسحوا كرومكم ست سنين؛ واستغلوا غلاتكم ست سنين؛ فأما السنة السابعة فلتكن سبت الراحة للأرض؛ لا تزرعوا مزارعكم؛ ولا تكسحوا كرومكم؛ ولتحصدوا ما ينبت في أرضكم في تلك السنة من غير أن يزرع؛ ولا تقطعوا عنب كرومكم؛ بل يكون سبت الراحة للأرض؛ لكم؛ ولبنيكم؛ ولإمائكم؛ ولإخوانكم؛ وللسكان الذين يسكنون معكم؛ وأحصوا سبع مرات سبعا سبعا: تسعا وأربعين سنة؛ وقدسوا سنة خمسين؛ وليكن رد الأشياء إلى أربابها؛ ولا تزرعوا أرضكم في تلك السنة؛ ولا تحصدوا ما نبت فيها؛ ولا تقطعوا عشبها؛ لأنها سنة الرد؛ واتقوا الله لأني أنا الله ربكم؛ احفظوا وصاياي؛ واعملوا بها؛ واحفظوا أحكامي؛ واعملوا بها؛ واسكنوا أرضكم بالسكون؛ والطمأنينة؛ لتغل لكم الأرض غلاتها؛ وتأكلوا؛ وتشبعوا؛ وتسكنوها مطمئنين؛ وإن قلتم: من أين نأكل في السنة السابعة التي لا نزرع فيها؛
[ ص: 461 ] فلا تهتموا؛ أنا منزل لكم بركاتي في السادسة؛ وتغل لكم أرضكم في تلك السنة غلة ثلاث سنين؛ حتى إذا زرعتم في السنة الثامنة لم تحتاجوا إلى غلتها؛ لأنكم تأكلون من السنة السادسة إلى التاسعة؛ وأما الأرض فلا تباع بيعا صحيحا أبدا؛ لأن الأرض لي).
وفيه مما لا يجوز إطلاقه في شرعنا؛ نسبة الاستراحة إليه - سبحانه -؛ هذا مع أنه أكد - سبحانه - العهود عليهم في التوحيد؛ وحفظ الأحكام؛ في جميع التوراة؛ على نحو ما تراه فيما أنقله منها في هذا الكتاب.