ولما وضح بالحجاج معهم الحق؛ واستبان بمحو شبههم كلها من وجوه كثيرة الرشد؛ وأوضح فساد طرقهم؛ وأبلغ في وعيدهم; أنتج
[ ص: 517 ] ذلك صدق الرسول؛ وحقيقة ما يقول: فأذعنت النفوس؛ فكان أنسب الأشياء أن عمم - سبحانه - في الخطاب؛ لما وجب من إتباعه على وجه العموم؛ عند بيان السبيل؛ ونهوض الدليل؛ فقال - مرغبا؛ مرهبا؛
يا أيها الناس ؛ أي: كافة؛
قد جاءكم الرسول ؛ أي: الكامل في الرسلية؛ الذي كان ينتظره أهل الكتاب لرفع الارتياب؛ ملتبسا
بالحق ؛ أي: الذي يطابقه الواقع؛ وستنظرون الوقائع فتطبقونها على ما سبق من الأخبار؛ كائنا ذلك الحق
من ربكم ؛ أي: المحسن إليكم؛ فإن اتبعتم رسوله قبلتم إحسانه؛ فتمت نعمته عليكم؛ ولهذا سبب عن ذلك قوله:
فآمنوا ؛ ولما كان التقدير - بما أرشد إليه السياق توعدا لهم -: "إن تؤمنوا يكن الإيمان
خيرا لكم "؛ عطف عليه قوله:
وإن تكفروا ؛ أي: تستمروا على كفرانكم؛ أو تجددوا كفرا؛ يكن الكفران شرا لكم؛ أي: خاصا ذلك الشر بكم؛ ولا يضره من ذلك شيء؛ ولا ينقصه من ملكه شيئا؛ كما أن الإيمان لم ينفعه شيئا؛ ولا زاد في ملكه شيئا؛ لأن له الغنى المطلق؛ وهذا معنى قوله:
فإن لله ؛ أي: الكامل العظمة؛
ما في السماوات والأرض ؛ فإنه من إقامة العلة مقام المعلول؛ ولم يؤكد بتكرير "ما"؛ وإن كان الخطاب مع المضطربين؛ لأن
[ ص: 518 ] قيام الأدلة أوصل إلى حد من الوضوح؛ بشهادة الله؛ ما لا مزيد عليه؛ فصار المدلول به كالمحسوس.
ولما كان التقدير: "فهو غني عنكم؛ وله عبيد غيركم لا يعصونه؛ وهو قادر على تعذيبكم بإسقاط ما أراد من السماء؛ وخسف ما أراد من الأرض؛ وغير ذلك"؛ وكان تنعيم المؤالف؛ وتعذيب المخالف؛ وتلقي النصيحة بالقبول دائرا على العلم؛ وعلى الحكمة؛ التي هي نتيجة العلم؛ والقدرة؛ قال:
وكان الله ؛ أي: الذي له الاختصاص التام بجميع صفات الكمال؛ أزلا؛ وأبدا؛ مع أن له جميع الملك؛
عليما ؛ أي: فلا يسع ذا لب أن يعدل عما أخبر به؛ من أن أمر هذا الرسول حق؛ إذ هو لم يخبر به إلا عن تمام العلم؛ ولا يخفى عليه عاص؛ ولا مطيع؛
حكيما ؛ فلا ينبغي لعاقل أن يضيع شيئا من أوامره؛ لأنه لم يضعها إلا على كمال الأحكام؛ فهو جدير بأن يحل بمخالفه أي انتقام؛ ويثيب من أطاعه بكل إنعام.