ولما كان من المعلوم أن من أعرض عن حكم الله أقبل؛ ولا بد؛ على حكم الشيطان؛ الذي هو عين الهوى؛ الذي هو دين أهل الجهل؛ الذين لا كتاب لهم هاد؛ ولا شرع ضابط؛ سبب عن إعراضهم
[ ص: 185 ] الإنكار عليهم؛ بقوله:
أفحكم الجاهلية ؛ أي: خاصة؛ مع أن أحكامها لا يرضى بها عاقل؛ لكونها لم يدع إليها كتاب؛ بل إنما هي مجرد أهواء؛ وهم أهل كتاب؛
يبغون ؛ أي: يريدون بإعراضهم عن حكمك؛ مع ما دعا إليه كتابهم من اتباعك؛ وشهد به كتابك بالعجز عن معارضته؛ من وجوب رسالتك إلى جميع الخلائق؛ وقراءة ابن عامر بالالتفات إلى الخطاب أدل على الغضب.
ولما كان حسن الحكم تابعا لإتقانه؛ وكان إتقانه دائرا على صفات الكمال؛ من تمام العلم؛ وشمول القدرة؛ وغير ذلك؛ قال - معلما أن حكمه أحسن الحكم عاطفا على ما تقديره: "فمن أضل منهم؟!" -:
ومن ؛ ويجوز أن تكون الجملة حالا من واو "يبغون"؛ أي: يريدون ذلك والحال أنه يقال: من
أحسن من الله ؛ أي: المستجمع لصفات الكمال؛
حكما ؛ ثم زاد في تقريعهم بكثافة الطباع؛ وجمود الأذهان ووقوف الأفهام؛ بقوله - معبرا بلام البيان إشارة إلى المعني بهذا الخطاب -:
لقوم ؛ أي: فيهم نهضة؛ وقوة محاولة لما يريدونه؛
يوقنون ؛ أي: يوجد منهم اليقين يوما ما؛ وأما غيرهم فليس بأهل للخطاب؛ فكيف بالعتاب؟! إنما عتابه شديد العقاب؛ وفي ذلك أيضا غاية التبكيت لهم؛ والتقبيح عليهم؛ من حيث إنهم لم يزالوا يصفون أهل الجاهلية بالضلال؛ وأن دينهم لم ينزل الله به
[ ص: 186 ] من سلطان؛ وقد عدلوا في هذه الأحكام إليه؛ تاركين جميع ما أنزل الله من كتابهم؛ والكتاب الناسخ له؛ فقد ارتكبوا الضلال بلا شبهة؛ على علم؛ وتركوا الحق المجمع عليه.