ولما لم تزل الدلائل على إبطال دعوى أهل الكتاب في البنوة والمحبة تقوم؛ وجيوش البراهين تنجد؛ حتى انتشبت فيهم سهام الكلام أي انتشاب؛ قال (تعالى) - معجبا من عامتهم؛ بعد تعيين خاصتهم؛ معلما بأنهم لم يقنعوا بالسكوت عن المنكر حتى تكلموا بأنكره؛ مشيرا إلى سفول رتبتهم؛ ودناءة منزلتهم؛ بأداة التأنيث -:
وقالت اليهود ؛ معبرين عن البخل؛ والعجز؛ جرأة وجهلا؛ بأن قالوا - ذاكرين اليد لأنها موضع القدرة؛ وإفاضة الجود والنصرة -:
يد الله ؛ أي: الذي يعلم كل عاقل أن له صفات الكمال؛
مغلولة ؛ أي: فهو لا يبسط الرزق غاية البسط؛ وهذا كناية عن البخل؛ والعجز؛ من غير نظر إلى مدلول كل من ألفاظه على حياله أصلا؛ كما قال (تعالى):
ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط ؛ ولم يقصد من ذلك غير الجود وضده؛ لا غل ولا عنق ولا بسط أصلا؛ بل صار هذا الكلام عبارة عما وقع مجازا عنه؛ كأنهما متعقبان على معنى واحد؛ حتى لو جاد
[ ص: 219 ] الأقطع إلى المنكب لقيل له ذلك؛ ومثل هذا كثير في الكتاب والسنة؛ منه الاستواء؛ "وقالت: في السماء"؛ المراد منه - كما قاله العلماء - أنه ليس مما يعبده المشركون من الأوثان؛ قال في الكشاف: ومن لم ينظر في علم البيان عمي عن تبصر محجة الصواب في تأويل أمثال هذه الآية؛ ولم يتخلص عن يد الطاعن إذا عبثت به.
ولما نطقوا بهذه الكلمة الشنعاء؛ وفاهوا بتلك الداهية الدهياء؛ أخبر عما جازاهم به - سبحانه - على صورة ما كان
العرب يقابلون به من يستحق الهلاك من الدعاء؛ فقال - معبرا بالمبني للمفعول؛ إفادة لتحتم الوقوع؛ وتعليما لنا كيف ندعو عليهم؛ ولم يسببه عما قبله بالفاء تقوية له؛ على تقدير سؤال سائل -:
غلت أيديهم ؛ دعاء مقبولا؛ وخبرا صادقا؛ عن كل خير؛ فلا تكاد تجد فيهم كريما؛ ولا شجاعا؛ ولا حاذقا في فن؛ وإن كان ذلك لم تظهر له
[ ص: 220 ] ثمرة؛
ولعنوا ؛ أي: أبعدوا مطرودين عن الجناب الكريم؛
بما قالوا ؛ والمعنى أنهم كما رأوا أحوال المنافقين المقضي في التوراة بأنها إثم؛ وأقروا عليها؛ فكذلك نطق بعضهم بكلمة الكفر؛ التي لا أفظع منها؛ وسكت عليه الباقون؛ فشاركوه؛ ولما كان الغل كناية عن البخل؛ وعدم الإنفاق؛ وكان الدعاء بغلهم ولعنهم متضمنا أن الأمر ليس كما قالوا؛ ترجمه - سبحانه - بقوله:
بل يداه ؛ وهو منزه عن الجارحة؛ وعن كل ما يدخل تحت الوهم؛
مبسوطتان ؛ مشيرا بالتثنية إلى غاية الجود؛ ليكون رد قولهم وإنكاره بأبلغ ما يكون في قطع تعنتهم؛ وتكذيب قولهم.
ولما كان معنى هذا إثبات ما نفوه على أبلغ الأحوال؛ قال - مصرحا بالمقصود؛ معرفا أنه في إنفاقه مختار؛ فلا غرو أن يبسط لبعض دون بعض -:
ينفق ؛ ولما كان إنفاقه - سبحانه - تحقيقا للاختيار على أحوال متباينة؛ بحيث إنها تفوت الحصر؛ أشار إلى التعجيب من ذلك بالتعبير بأداة الاستفهام؛ وإن قالوا: إنها في هذا الموطن شرط؛ فقال:
كيف ؛ أي: كما؛
يشاء ؛ أي: على أي حالة أراد؛ دائما؛ من تقتير؛ وبسط؛ وغير ذلك.
ولما كان قولهم هذا غاية في العجب؛ لأن كتابهم كاف في تقبيحه؛ بل تقبيح ما هو دونه في الفحش؛ فكيف وقد انضم إلى ذلك ما أنزل في القرآن من واضح البيان؟ قال - سبحانه - عاطفا على
"وترى كثيرا منهم"؛ [ ص: 221 ] مؤكدا لمضمون ما سبق؛ من قوله: "ومن يرد الله فتنته فلن تملك له من الله شيئا"؛ بأنه جعل سبب هذا القول منهم ما أتاهم من الهدى الأكمل في هذا الكتاب المعجز؛ على لسان هذا النبي الذي هم به أعرف منهم بأبنائهم -:
وليزيدن كثيرا منهم ؛ أي: ممن أراد الله فتنته؛ ثم ذكر فاعل الزيادة؛ فقال:
ما أنـزل إليك ؛ أي: على ما له من النور؛ وما يدعو إليه من الخير؛
من ربك ؛ أي: المحسن إليك بكل ما ينفعك دنيا وأخرى؛
طغيانا ؛ أي: تجاوزا عظيما عن الحد؛ تمتلئ منه الأكوان في كل إثم؛ وشنإ؛ وذلك بما جره إليهم داء الحسد؛ لأنهم كلما رأوه - سبحانه - قد زاد إحسانه إليك طعنوا في ذلك الإحسان؛ وهو - لما له من الكمال؛ وعلو الشأن - يكون الطعن فيه من أعظم الدليل عليه؛ والبرهان؛ فيكون أعدى العدوان؛
وكفرا ؛ أي: سترا لما ظهر لعقولهم من النور؛ ودعت إليه كتبهم من الخير؛ وهذا كما يؤذي الخفاش ضياء الصباح؛ وكلما قوي الضياء زاد أذاه؛ وفي هذا إياس من توبتهم؛ وتأكيد لعداوتهم؛ وزجر عن موالاتهم؛ ومودتهم؛ أي: إنهم لا يزدادون بحسن وعظم وجميل تلاوتك عليهم الآيات إلا شقاقا؛ ما وجدوا قوة؛ فإن ضعفوا فنفاقا؛
[ ص: 222 ] ولما كان الإخبار باجتماع كلمتهم على شقاوة الكفر ربما أحدث خوفا من كيدهم؛ نفى ذلك بقوله:
وألقينا ؛ أي: بما لنا من العظمة الباهرة؛
بينهم ؛ أي: اليهود؛
العداوة ؛ ولما كانت العداوة - وهي أن يعدو بعضهم إلى أذى بعض - ربما زالت بزوال السبب؛ أفاد أنها لازمة لا تنفك؛ بقوله:
والبغضاء ؛ أي: لأمور باطنية وقعت في قلوبهم وقوع الحجر الملقى من علو؛
إلى يوم القيامة ؛ ولما كان ذلك مفيدا لوهنهم ترجمه بقوله:
كلما أوقدوا ؛ على سبيل التكرار؛ لأحد من الناس؛
نارا للحرب ؛ أي: بإحكام أسبابها؛ وتفتيح جميع أبوابها؛
أطفأها ؛ أي: خيب قصدهم في ذلك؛
الله ؛ أي: الذي له جميع صفات الكمال؛ فلا تجدهم في بلد من البلاد إلا في الذل؛ وتحت القهر؛ وأصل استعارة النار لها ما في كل منهما من التسلط؛ والغلبة؛ والحرارة في الظاهر والباطن؛ مع أن المحارب يوقد النار في موضع عال ليجتمع إليه أنصاره؛ ولقد قام - لعمري - دليل المشاهدة على صدق ذلك بغزوة
"قينقاع"؛ ثم
"النضير"؛ ثم
قريظة؛ والقبائل الثلاث
بالمدينة لم يتناصروا؛ ولم ينصروا؛ ثم غزوة
"خيبر"؛ وأهل
فدك ووادي القرى وهم متقاربون؛ ولم يتناصروا؛ ولم ينصروا؛ هذا فيما في خاصتهم؛
[ ص: 223 ] وأما في غير ذلك فقد ألبوا الأحزاب؛ وجمعوا القبائل؛ وأتقنوا في أمرهم على زعمهم المكايد؛ ثم أطفأ الله نارهم؛ حسا ومعنى بالريح؛ والملائكة؛ وألزمهم خزيهم؛ وعارهم؛ وجعل الدائرة عليهم - وساق جيش المنون على أيدي المؤمنين إليهم؛ وإلى ذلك وأمثاله من أذاهم الإشارة بقوله:
ويسعون ؛ أي: يوجدون مجتهدين اجتهاد الساعي على سبيل الاستمرار؛ بما يوجدون من المعاصي؛ من كتمان ما عندهم من الدليل على صحة الإسلام؛ وغير ذلك من أنواع الإجرام؛
في الأرض ؛ أي: كل ما قدروا عليه بالفعل؛ والباقي بالقوة.
ولما كان الإنسان لكونه محل نقصان لا ينبغي أن يتحرك؛ فضلا عن أن يمشي؛ فضلا عن أن يسعى إلا بما يرضي الله؛ وحينئذ لا ينسب الفعل إلا إلى الله؛ لكونه آمرا به؛ خالقا له؛ فكانت نسبة السعي إلى الإنسان دالة على الفساد؛ صرح به في قوله:
فسادا ؛ أي: للفساد؛ أو ذوي فساد؛
والله ؛ أي: والحال أن الذي له الكمال كله؛
لا يحب المفسدين ؛ أي: لا يفعل معهم فعل المحب؛ فلا ينصر لهم جيشا؛ ولا يعلي لهم كعبا؛ ولا يصلح لهم شأنا؛ وبذلك توعدهم سبحانه في التوراة أنهم إذا خالفوا أمره سلط عليهم من عذابه؛ بواسطة عباده؛ وبغير واسطتهم؛ ما يفوت الحصر - كما مضى ذلك قريبا عما بين أيديهم من التوراة بنصه.