ولما كانت هذه البشارة - الصادقة من العزيز العليم؛ الذي أهل الكتاب أعرف الناس به - لمن آمن؛ كائنا من كان؛ موجبة للدخول في الإيمان؛ والتعجب ممن لم يسارع إليه؛ وكان أكثر أهل الكتاب إنما يسارعون في الكفر؛ كان الحال مقتضيا لتذكر ما مضى من قوله (تعالى):
ولقد أخذ الله ميثاق بني إسرائيل وبعثنا منهم اثني عشر نقيبا ؛ وزيادة العجب منهم؛ مع ذلك؛ فأعاد - سبحانه - الإخبار به؛ مؤكدا له؛ تحقيقا لأمره؛ وتفخيما لشأنه؛ وساقه على وجه يرد دعوى البنوة؛ والمحبة؛ ملتفتا - مع التذكير بأول قصصهم في هذه السورة - إلى أول السورة:
أوفوا بالعقود ؛ وعبر في موضع الجلالة بـ "نون العظمة"؛ وجعل بدل النقباء الرسل؛ فقال - مستأنفا -:
لقد أخذنا ؛ أي: على ما لنا من العظمة؛
ميثاق بني إسرائيل ؛ أي: على الإيمان بالله؛ ثم بمن يأتي بالمعجز؛ مصدقا لما عنده؛ بحيث يقوم
[ ص: 244 ] الدليل على أنه من رسل الله؛ الذين تقدم أخذ العهد عليهم بالإيمان بهم؛ ودل على عظمة الرسل بقوله - في مظهر العظمة -:
وأرسلنا إليهم رسلا ؛ أي: لم نكتف بهذا العهد؛ بل لم نخلهم من بعد
موسى من الرسل الذين يرونهم الآيات؛ ويجددون لهم أوامر الرب؛ إلى زمن
عيسى - عليه السلام -؛ روى الشيخان؛ عن
nindex.php?page=showalam&ids=3أبي هريرة - رضي اللـه عنه -؛
nindex.php?page=showalam&ids=12070البخاري ؛ في بني إسرائيل؛
nindex.php?page=showalam&ids=17080ومسلم ؛ في المغازي؛ أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال:
nindex.php?page=hadith&LINKID=653196 "كانت بنو إسرائيل تسوسهم الأنبياء؛ كلما هلك نبي خلفه نبي؛ وإنه لا نبي بعدي؛ وسيكون خلفاء فيكثرون"؛ قالوا: فما تأمرنا؟ قال: "فوا ببيعة الأول فالأول؛ وأعطوهم حقهم؛ فإن الله سائلهم عما استرعاهم"؛ انتهى.
ومع ذلك فلم يخل لهم زمان طويل من الكفر؛ لا في زمن
موسى ؛ ولا في زمن من بعده من الأنبياء - عليهم السلام -؛ حتى قتلوا كثيرا من الرسل؛ وهو معنى قوله - جوابا لمن كأنه قال: ما فعلوا بالرسل؟ -:
كلما جاءهم رسول ؛ أي: من أولئك الرسل؛ أي رسول كان؛
بما لا تهوى أنفسهم ؛ أي: بشيء لا تحبه نفوسهم؛ محبة تتساقط بها إليه؛ خالفوه؛ فكأنه قيل: أي مخالفة؟ فقيل:
فريقا ؛ أي: من الرسل؛
كذبوا ؛ أي: كذبهم بنو إسرائيل؛ من غير قتل؛ ودل على شدة بشاعة القتل؛ وعظيم شناعته؛ بالتعبير بالمضارع؛ تصويرا للحال الماضية؛ وتنبيها على أن هذا ديدنهم؛
[ ص: 245 ] وهو أشد من التكذيب؛ فقال:
وفريقا يقتلون ؛ أي: مع التكذيب؛ وليدل على ما وقع منهم في سم النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ وقدم المفعول للدلالة على انحصار أمرهم في حال التكذيب والقتل؛ فلا حظ لهم في تصديق مخالف لأهويتهم؛