ولما كان فيها إقامة الشهود؛ وحبسهم عن مقاصدهم؛ حتى يفرغوا من هذه الواقعة المبحوث فيها عن خفايا متعلقة بالموت؛ والتغليظ بالتحليف بعد صلاة العصر؛ وكانت ساعة يجتمع فيها الناس؛ وفريقا الملائكة المتعاقبين فينا ليلا ونهارا؛ مع أنها ساعة الأصيل المؤذنة بهجوم الليل؛ وتقوض النهار؛ حتى كأنه لم يكن؛ ورجوع الناس إلى منازلهم؛ وتركهم لمعايشهم؛ وكانت عادته - سبحانه - بأنه يذكر أنواعا من الشرائع والتكاليف؛ ثم يتبعها إما بالإلهيات؛ وإما بشرح أحوال الأنبياء؛ وإما بشرح أحوال القيامة؛ ليصير ذلك مؤكدا لما تقدم من التكاليف؛ ولا ينتقل من فن إلى آخر إلا بغاية الإحكام في الربط؛ عقبها (تعالى) بقوله:
يوم يجمع الله ؛ أي: الملك الأعظم؛ الذي له الإحاطة الكاملة؛
الرسل ؛ أي: الذين أرسلهم إلى عباده؛ بأوامره ونواهيه؛ إشارة إلى تذكر انصرام هذه الدار؛ وسرعة هجوم ذلك؛ بمشاهدة هذه الأحوال المؤذنة به؛ وبأنه يوم يقوم فيه الأشهاد؛ ويجتمع فيه العباد؛ ويفتضح فيه أهل الفساد؛ إلى غير ذلك من الإشارات لأرباب البصائر والقلوب؛ والظاهر أن "يوم"؛ ظرف للمضاف المحذوف الدال عليه الكلام؛ فإن من المعلوم أنك إذا قلت: "خف من
[ ص: 337 ] فلان"؛ فإن المعنى: "خف من عقابه"؛ ونحو ذلك؛ فيكون المراد هنا: واتقوا غضب الله الواقع في ذلك اليوم؛ أي: اجعلوا بينكم وبين سطواته في ذلك اليوم وقاية؛ أو يكون المعنى: اذكروا هذه الواقعة؛ وهذا الوقت الذي يجمع فيه الشهود؛ ويحبس المعترف والجحود؛ يوم الجمع الأكبر؛ بين يدي الله (تعالى) ؛ ليسألهم عن العباد؛ ويسأل العباد عنهم؛
فيقول ؛ أي: للرسل؛ تشريعا لهم؛ وبيانا لفضلهم؛ وتشريفا للمحق من أممهم؛ وتبكيتا للمبطل؛ وتوبيخا للمفرط منهم؛ والمفرط.
ولما كان مما لا يخفى أصلا أنهم أجيبوا؛ ولا يقع فيه نزاع؛ ولا يتعلق بالسؤال عنه غرض؛ تجاوز السؤال إلى الاستفهام من نوع الإجابة؛ فقال:
ماذا أجبتم ؛ أي: أي إجابة أجابكم من أرسلتم إليهم؛ إجابة طاعة أو إجابة معصية؟
ولما كان المقصود من قولهم بيان الناجي من غيره؛ وكانت الشهادة في تلك الدار لا تنفع إلا فيما وافق فيه الإضمار الإظهار؛ فكانت شهادتهم لا تنفع المشهود له بحسن الإجابة؛ إلا أن يطابق ما قاله بلسانه اعتقاده بقلبه؛
قالوا ؛ نافين لعلمهم أصلا؛ ورأسا؛ إذا كان موقوفا على شرط؛ هو من علم ما غاب؛ ولا علم لهم به
لا علم لنا ؛ أي: على الحقيقة؛ لأنا لا نعلم إلا ما شهدناه؛ وما غاب عنا أكثر؛ وإذا كان الغائب قد يكون مخالفا للمشهود؛ فما شهد ليس بعلم؛ لأنه غير مطابق
[ ص: 338 ] للواقع؛ ولهذا عللوا بقولهم:
إنك أنت ؛ أي: وحدك؛
علام الغيوب ؛ أي: كلها؛ تعلمها علما تاما؛ فكيف بما غاب عنا من أحوال قومنا؟! فكيف بالشهادة؟! فكيف بما شهدنا من ذلك؟! وهذا في موضع قولهم: أنت أعلم؛ لكن هذا أحسن أدبا؛ فإنهم محوا أنفسهم من ديوان العلم بالكلية؛ لأن كل علم يتلاشى إذا نسب إلى علمه؛ ويضمحل مهما قرن بصفته؛ أو اسمه.