فلما تأكد أمر البعث غاية التأكد ، ولم يبق فيه لذي لب وقفة ، صرح بما اقتضاه الحال من أمر هذه الدار ، فقال منبها على خساستها معجبا منهم في قوة رغبتهم في إيثار لذاذتها ، معلما بأنه قد كشف الحال عن أن ما ركنوا إليه خيال ، وما كذبوا به حقيقة ثابتة ليس لها زوال ، عكس ما كانوا يقولون :
وما الحياة الدنيا .
ولما كان السياق للخسارة ، وكانت أكثر ما تكون من اللعب - وهو فعل ما يزيد سرور النفس على وجه غير مشروع ، ويسرع انقضاؤه -
[ ص: 93 ] - قدمه فقال :
إلا لعب ولهو [أي] للأشقياء ، وللحياة الدنيا شر للذين يلعبون ، واللهو ما من شأنه أن يعجب النفس كالغناء والزينة من المال والنساء على وجه لم يؤذن فيه ، فيكون سببا للغفلة عما ينفع ، [فتأخيره إشارة إلى أن الجهلة كلما فتروا في اللعب وهو اشتغال بالأمور السافلة والشواغل الباطلة بعلو النفوس - أثاروا الشهوات بالملاهي] ، والمعنى أنه تحقق من هذه الآيات زوال الدنيا ، فتحققت سرعته ؛ لأن كل آت قريب ، فحينئذ ما هي إلا ساعة لعب ، يندم الإنسان على ما فرط فيها ، كما يندم اللاعب - إن كان له عقل - على تفويت الأرباح إذا رأى ما حصل أولو الجد وأرباب العزائم .
ولما كان التقدير بما أرشد إليه المعنى : وما الدار الآخرة إلا جد وحضور وبقاء للأتقياء - أتبعه قوله مؤكدا :
وللدار الآخرة خير ولما كان الكل مآلهم إلى الآخرة - خصص فقال :
للذين يتقون أي : يوجدون التقوى ، وهي الخوف من الله الذي يحمل على فعل الطاعات وترك المعاصي ، ليكون ذلك وقاية لهم من غضب الله ، فذكر حال الدنيا وحذف نتيجتها لأهلها لدلالة ثمرة الآخرة عليه وحذف ذكر حال الآخرة لدلالة ذكر حال الدنيا عليه ، فهو احتباك ; ولما كان من شأن العقلاء الإقبال على الخير وترك غيره ، تسبب عن
[ ص: 94 ] إقبالهم على الفاني وتركهم الباقي قوله منكرا :
أفلا تعقلون