[ ص: 116 ] ولما كان من عادة الغالب من أهل الدنيا أن يفوته آخر الجيوش وشذابهم لملل أصحابه من الطلب وضجرهم من النصب والتعب وقصورهم عن الإحاطة بجميع الأرب - أخبر تعالى أن أخذه على غير ذلك ، وأن نيله للآخر كنيله للأول على حد سواء ، فقال مسببا عن الأخذ الموصوف مشيرا بالبناء للمفعول إلى تمام القدرة ، وبالدابر إلى الاستئصال :
فقطع دابر أي : آخر
القوم الذين ظلموا أي : بوضع الشيء في غير موضعه دأب الماشي في الظلام ، وضعوا لقسوة موضع الرقة التي تدعو إليها الشدة ، ووضعوا الفرح بالنعمة موضع الخشية من الرد إلى الشدة ، كما ظلمتم أنتم بدعاء الأصنام وقت الرخاء وكان ذلك موضع دعاء من أفاض تلك النعم ، ودعوتم الله وقت الشدة وكان ذلك موضع دعاء من عبدتموه وقت الرخاء ، لئلا تقعوا فيما جرت عادتكم بالذم به .
وإذا تكون كريهة أدعى لها وإذا يحاس الحيس يدعى جندب
ولما كان استئصالهم من أجل النعم على من عادوهم فيه من الرسل - عليهم السلام - وأتباعهم - رضي الله عنهم - نبه على ذلك بالجملة مع ما يشير
[ ص: 117 ] إليه من ظهور الاستغناء المطلق - فقال :
والحمد أي : قطع أمرهم كله والحال أن الإحاطة بأوصاف الكمال
لله المتفرد بنعوت الجلال والجمال
رب العالمين الموجد لهم أجمعين ، أي : له ذلك كله بعد فناء الخلق على أي صفة كانوا من إيمان أو كفر ، كما كان له ذلك قبل وجودهم وعند خلقهم على كل من حالتيهم - كما أشير إليه بأول السورة ، فكأنه قيل : الكمال لله الذي خلق السماوات والأرض وجعل الظلمات والنور ، ثم الذين كفروا بربهم يعدلون ، فقطع دابرهم ، والكمال له لم يتغير ؛ لأنه لا يزيده وجود موجود ، ولا ينقصه فقد مفقود ، فهو محمود حال الإعدام والمحق كما كان محمودا حال الإيجاد والخلق ، فلا تذهب نفسك عليهم حسرات ، فإنه لا يخرج شيء عن إيمانهم ولا كفرانهم عن إرادته - سبحانه - فلا عليك منهم اقترحوا الآيات أو لا ، فإنه ليس عليك إلا البلاغ .