[ ص: 163 ] ولما أبدى هذه الأدلة في إبطال الضلال بالكواكب والشمس التي هي أوضح من الشمس ، عطف عليها الإخبار بأنهم لم يرجعوا إليه بل حاجوه ، فقال :
وحاجه قومه بأنهم لا ينفكون عن عبادتها لأنهم وجدوا آباءهم كذلك ، وأنه إن لم يرجع عن الكلام فيها أصابته ببعض النوازل ، وذلك من أعظم التسلية لهذا النبي العربي الكريم - عليه أفضل الصلاة والتسليم - .
ولما كان من المعلوم أن محاجتهم بعد هذه الأدلة الواضحة في غاية من السقوط - سفلت عن الحضيض ، نزه المقام عن ذكرها ، إشارة إلى أنها بحيث لا يستحق الذكر ، وبين جوابه لما فيه من الفوائد الجمة بقوله :
قال أي : بقول ، منكرا عليهم موبخا لهم :
أتحاجوني وصرح باسم الرب العلم الأعظم في قوله :
في الله أي شيء مما يختص به المستجمع لصفات الكمال لا سيما التوحيد
وقد أي : والحال أنه قد
هداني أي : أرشدني بالدليل القطعي إلى معرفة كل ما يثبت له وينفى عنه ، أي : لأنه قادر ، فبين أنه تعالى قد أحسن إليه ، فهو يرجوه لمثل ذلك الإحسان ، ويخافه من عواقب العصيان ؛ لأن من رجي خيره خيف ضيره ، ومن كان بيده النفع والضر والهداية والإضلال فهو من وضوح الأمر وظهور الشأن بحيث لا توجه نحوه
[ ص: 164 ] المحاجة ، وأتبعه بيان أن معبوداتهم مسلوب عنها ما يوجه إليه الهمم ، فقال عاطفا على ما تقديره : فأنا أرجوه وأخافه ؛ لأنه قادر :
ولا أخاف ما تشركون به ولا أرجوه لهداية ولا إضلال ولا غيرهما لأنه عاجز ، فأثبت لله القدرة بالهداية ؛ لأنها أشرف ، وطوى الإضلال لدلالتها ودلالة ما نفي في جانب الشركاء عليه ، وأثبت لآلهتهم العجز بنفي الخوف المستلزم لنفي القدرة على الضر . وذلك دال على أن الله تعالى أهل لأن يخاف منه . كل ذلك تلويحا لهم بأن العاقل لا ينبغي له أن يخالف إلا من يأمن ضره ، فهم في مخالفتهم لله في غاية من الخطر ، لا يرتكبها عاقل ، والآية من الاحتباك .
ولما نفى عن نفسه خوف آلهتهم أبدا في الحال والاستقبال ، وكان من الأمر البين في الدين الحق أنه لا يصح الإيمان إلا مع الإقرار بخفاء العواقب على العباد وإثبات العلم بها لله تسليما لمفاتيح الغيب إليه ، وقصرها عليه; قال مستثنيا من سبب النفي ، وهو أنها لا تقدر على شيء :
إلا أن يشاء ربي المحسن إلي في حال الضر كما هو محسن في حال النفع
شيئا أي : من تسليطها بأنفسها أو باتباعها ؛ لأنه قادر على ما يريد ، فإن أراد أنطق الجماد وأقدره ، وأخرس الناطق الفصيح وأعجزه ، فأنا لا أخاف في الحقيقة غيره .
[ ص: 165 ] ولما كان هذا في صورة التعليق ، وكان التعليق وما شابهه من شأنه أن لا يصدر إلا من متردد ، فيكون موضع إطماع للخصم فيه ، علله بما أزال هذا الخيال ، فقال :
وسع ربي كل شيء علما أي : فأحاط بكل شيء قدرة ، فهو إذا أراد إقدار العاجز أزال عنه كل مانع من القدرة ، وأثبت له كل مقتض لها ، وذلك ثمرة شمول العلم - كما سيأتي برهانه - إن شاء الله تعالى - في سورة ( طه ) ، فالمراد أني ما تركت الجزم لشك عندي ، وإنما تركته لعدم علمي بالعواقب إعلاما بأن تلك رتبة لا تصلح إلا لله الذي وسع علمه كل شيء ، وأدل دليل على هذا اتباعه له بإنكاره عليهم عدم الإبلاغ في التذكر بقوله مظهرا تاء التفعل إشارة إلى أن في جبلاتهم أصل التذكر الصاد عن الشرك :
أفلا تتذكرون أي : يقع منكم تذكر ، فتميزوا بين الحق والباطل بأن تذكروا مآلكم من أنفسكم بأن من غاب عن مربوبه فسد أو كاد ، وأن هذه الجمادات لا تنفع ولا تضر ، وأنها مصنوعكم ،