ولما أشار إلى رفعته بأنه بصره بالحجة حتى كان على بصيرة من أمره ، وأنه علا على المخالفين برفع الدرجات ، أتبع ذلك ما دل عليها وعلى حكمته بعلمه بالعواقب ، فقال معلما بأنه جعله عزيزا في الدنيا لأن
[ ص: 170 ] أشرف الناس الأنبياء والرسل ، وهم من نسله وذريته ، ورفع ذكره أبدا لأجل قيامه بالذب عن توحيده :
ووهبنا له أي : لخليلنا - عليه السلام - بما لنا من العظمة
إسحاق ولدا له على الكبر حيث لا يولد لمثله ولا لمثل زوجته
ويعقوب أي : ولد ولد ، وابتدأ - سبحانه - بهما لأن السياق للامتنان على الخليل - عليه السلام - وهو أشد سرورا بابنه الذي متع به ولم يؤمر بفراقه وابن ابنه الذي أكثر الأنبياء الداعين إلى الله من نسله ومن خواصه ، وهو الموجب الأعظم للبداءة أن أبناءه طهروا الأرض المقدسة التي هي مهاجر
إبراهيم - عليه السلام - ومختاره للسكنى بنفسه ونسله ، بل مختار الله له ولهم بعده بمدد طهورها من الشرك وعبادة الأوثان ، ودعوا إلى الله ونوروا الأرض بعبادته .
ولما كانت النعمة لا تتم إلا بالهداية ، قال مستأنفا مقدما للمفعول ليشمل الكلام إياهما :
كلا أي : منهما ومن أبيهما
هدينا ثم أتبع ذلك المهتدين قديما وحديثا تأكيدا لأن هذا المذهب لم يزل خلص العباد دعاة إليه في قديم الزمان وجديده ، فكأنه يقول : إن كنتم تلزمون دينكم ؛ لأنه
[ ص: 171 ] عندكم حق ، فقد تبين لكم بطلانه ، وأن الحق إنما هو التوحيد ، وإن كنتم تلزمونه لقدمه فهذا الدين - الذي - دعاكم إليه رسولي مع وضوح الدلالة على حقيته - هو القديم الذي دعاكم إليه
نوح ومن تلاه من خلص ذريته إلى
إبراهيم أبيكم الأعظم ومن بعده من خلص ذريته إلى
عيسى ، ثم إلى هذا الرسول الذي هو دعوة
إبراهيم وبشارة
عيسى - على الكل أبلغ الصلاة وأتم التسليم - فهو أحق بالاتباع من جهة الحقية والأقدمية ، وإن كنتم تلزمونه لمجرد اتباع الآباء فليس في آبائكم مثل
إبراهيم - عليه السلام - وقد تلوت عليكم في كلامي الذي أقمت الدليل القطعي بعجزكم عنه على صحة نسبته إلى ما حاج به أباه وقومه في إبطال الأوثان التي أضلتكم ، فهو أولى آبائكم أن تعتدوا به - والله الموفق .
ولما كان ربما وقع في وهم أن هداية كل من
إسحاق وابنه بتربية أبيه ، ذكر العاشر من آباء الخليل وهو
نوح - عليهما السلام - لدفع ذلك ، ولأن السياق لإنكار الأوثان ، وهو أول من نهى عن عبادتها ، وهو أجل آباء الخليل - عليه السلام - فقال :
ونوحا هدينا أي : بما لنا من العظمة من بين ذلك الجيل الأعوج .
ولما كانت لم تتجاوز منه ، وكان زمنه بعض الزمن المتقدم -أثبت الجار وقطعه عن الإضافة لتراخي زمانهم كثيرا عن زمانه فقال :
[ ص: 172 ] من قبل أي : ولم تكن هدايته إلا بنا في زمان كان أهله من شدة الضلال ولزوم الظلم في مثل استقبال الليل ، كلما امتد احلولك ظلامه واشتد ، وطالما دعاهم إلى الله ورباهم فلم يرجع منهم كثيرا أحد حتى لقد خالفه زوجه وبعض ولده ، ولمثل ذلك فصل بين
إسماعيل وأبيه
ويوسف وأبيه - عليهم السلام - إشارة إلى فراق كل منهما لأبيه في الحياة ، وأنه ما حفظ كلا منهما على سنن الهدى طول المدى - إلا الله ; ثم ابتدأ المذكورين بعد بمن بنى على يده ويد ابنه مسجدا هو بعد المسجد الذي بناه
إبراهيم وولده
إسماعيل - عليهما السلام - فقال :
ومن ذريته
ولما كان السياق كله لمدح
الخليل ، وكان المذكورون - إلا
لوطا - من نسله ، وكان التغليب مستعملا شائعا في لسان
العرب ، لا سيما
ولوط ابن أخيه ومثل ولده - حكم بأن الضمير
لإبراهيم - عليه السلام - وقول من قال : إن
يونس - عليه السلام - ليس من نسله غير صحيح ، بل هو من بني إسرائيل ، وهو أحد من ذكر في سفر الأنبياء ، وسيأتي خبره من السفر المذكور في سورة
والصافات - إن شاء الله تعالى - وقد صرح
أبو الحسن محمد بن عبد الله الكسائي في قصص الأنبياء أنه من ذرية
إبراهيم ، واقتضى كلامه أنه من بني إسرائيل ، كما اقتضى ذلك
[ ص: 173 ] كلام
nindex.php?page=showalam&ids=13889البغوي في سورة الأنبياء - عليهم السلام - وأما
أيوب فروي من نسل
عيص بن إسحاق - عليهم السلام -
داود أي : هديناه
وسليمان أي : اللذين بنيا
بيت المقدس بأمر الله :
داود بخطه وتأسيسه ،
وسليمان بإكماله وتشييده .
وما كان مع ذلك ملكين ، تلاهما بمن شابههما في الملك أو الحكم على الملوك فقال :
وأيوب وقدمه لمناسبة ما بينه وبين
سليمان في أن كلا منهما ابتلي بأخذ كل ما في يده ثم رد الله إليه
ويوسف وكل من هؤلاء الأربعة ابتلي فصبر ، واغتنى فشكر ،
وأيوب إن لم يكن ملكا فقد كانت ثروته غير مقصرة عن ثروة الملوك ، على أن بعض الطلبة أخبرني عن تفسير
الهكاري - فيما أظن - أنه صرح بأنه ملك ، وأيضا فالاثنان الأولان كانا سبب إصلاح بني إسرائيل بعد الفساد واستنقاذهم من ذل الفلسطين ، والاثنان الباقيان كل منهما ابتلي بفراق أهله ثم ردوا عليه :
أيوب بعد أن ماتوا ،
ويوسف قبل الموت ،
[ ص: 174 ] وأيضا
فداود - عليه السلام - شارك
إبراهيم - عليه السلام - في أنه كان سبب سلامته من ملك زمانه الاختفاء في غار ، وذلك أن
نمرود بن الكنعان كان ادعى الإلهية وأطمع فيها ، وقال له منجموه : يولد في بلدك هذا العام غلام يغير دين أهل الأرض ، ويكون هلاكك على يده ، فأمر بذبح كل غلام في ناحيته في تلك السنة ، وأمر بعزل الرجال عن النساء ، وحملت أم
إبراهيم - عليه السلام - به في تلك السنة ، فلما وجدت الطلق خرجت ليلا إلى غار قريب منها فولدت فيه
إبراهيم وأصلحت من شأنه ، ثم سدت فم الغار ورجعت ، ثم كانت تطالعه فتجده يمتص إبهامه ، وكان يشب في اليوم كالشهر وفي الشهر كالسنة; وأما
داود - عليه السلام - فإنه لما قتل
جالوت وزوجه
طالوت ابنته ، وناصفه ملكه - على ما كان شرط لمن قتل
جالوت - مال إليه الناس وأحبوه ، فحسده فأراد قتله ، فطلبه فهرب منه ، فدخل غارا فنسجت عليه العنكبوت ، فقال
طالوت : لو دخل هنا لخرق بناء العنكبوت ، فأنجاه الله منه; وتلاه
بسليمان لأنه مع كونه من أهل الملك والبلاء شارك
إبراهيم - عليهما السلام - في إبطال عبادة الشمس في قصة
بلقيس - رضي الله عنها - وقصة
يوسف - عليه السلام - في إبطال عبادة الأوثان شهيرة في قوله تعالى :
يا صاحبي السجن أأرباب متفرقون خير أم الله الواحد القهار [ ص: 175 ] ولما كان
يوسف - عليه السلام - ممن أعلى الله كلمته على كلمة ملك
مصر وأعز ملكها وأهلها وأحياهم به - أتبعه من أعلى الله كلمتهما على كلمة ملك
مصر وأهلها وأهلكهم بهما ، فكأن بعض قصصهم وفاق ، وبعضها تقابل وطباق ، فقال :
وموسى وهارون ولما كان التقدير : هديناهم جزاء لإحسانهم باهتدائهم في أنفسهم ودعائهم لغيرهم إلى الهدى ، لم يشغل أحدا منهم منحة السراء ولا محنة الضراء ، عطف عليه قوله :
وكذلك أي : ومثل ما جزيناهم
نجزي المحسنين أي : كلهم ، ففي ذلك إشارة إلى علو مقامهم من هذه الجهة ، وهي أنهم من أهل السراء المطفئة والضراء المسنية ، ومع ذلك فقد أحسنوا ولم يفتروا ولم ينوا .