ولما كان كل والد وكل شريك لا بد أن يكون مجانسا لولده وشريكه بوجه ، وصل بذلك من وصفه ما اقتضاه المقام من تنزيهه ، فقال :
لا تدركه أي : حق الإدراك بالإحاطة
الأبصار أي : أن من جعلتموه ولده أو شريكه هو مدرك بأبصاركم
كعيسى وعزير - عليهما السلام - والأوثان والنجوم والظلمة والنور ، وأما الملائكة والجن فإن كان حكمكم عليهم بذلك عن مشاهدة فهم كمن تقدمهم ، وإن كان
[ ص: 220 ] عن إخبار فهو عن الأنبياء ليس غير ، وكل منهم مخبر بأنهم عباد الله كغيرهم ، وأنه منزه عن شريك وولد ، وهذه كتبهم وصحاح أخبارهم شاهدة بذلك ، [و] وراء ذلك كله أنهم بحيث يدركون بالأبصار في الجملة ، ليس إدراكهم مستحيلا ، وأما هذا الإله العزيز فهو غير مدرك لكم بالبصر كما يدرك غيره إدراكا تاما ، فيتأمله ناظره فيزنه وينقده بالخبرة بما فيه من رضى وغضب وغيرهما ، بما أبدته الفراسة وأوضحه التوسم ؛ لأنه - سبحانه - متعال عن أن يحاط به ، هذا على أنه من عموم السلب ، وإن كان من سلب العموم فالمعنى أنه عزيز لا يراه كل أحد ، بل يراه الخواص إذا أراد فكشف لهم الحجاب وأوجد لهم الأسباب
وهو مع ذلك يدرككم ، بل و
يدرك ما لا تدركونه من أنفسكم
الأبصار وهي القوى المودعة في عصبة العين لتدرك بها المبصرات
وهو اللطيف عن أن يحيط به الأبصار ؛ لأنه يمنع الأسباب عن أن ينشأ عنها مسبباتها ، ويوجد أدق الأسباب وأغربها ، فلا يستغرب عليه إدراك المعاني لأنه الذي أوجدها
ألا يعلم من خلق وأصل اللطف دقة النظر في الأشياء
الخبير أي : المحيط بالأبصار فإحاطته بأصحابها أجدر ، ويتحقق معنى الاسمين لتحقق المعنى; قال
nindex.php?page=showalam&ids=14085الحرالي في شرح الأسماء : اللطف إخفاء التوسل إلى الشيء بإظهار ما يضاده ، ولا يتم إلا بخبرة ؛ ولذلك نظم باسمه
الخبير [ ص: 221 ] لأنه أخفى حكمته في ظاهر يضادها ، فاللطف مخبرة في حكمة ، وباسمه تعالى ( اللطيف ) أقام أمر حكمته ما بين الدنيا والآخرة ، وبذلك أقام أمر أهل ولايته في الدنيا لما جمع لهم من أمره فيها ، فيبدو عزهم من وراء ذل ، ويتراءى ذلهم ومن دونه [عز] ، فيسبق عزهم إلى القلوب مع تذللهم في الحواس ، ويؤول محسوسهم إلى عز في عقبى الدنيا ، ومبادرة الآخرة مع تأنس القلوب بهم ،
إن ربي لطيف لما يشاء لما أراد أن يملكه
مصر وجعل وسيلة ذلك استبعاده بها ، وبحصول معناه بتمام الخبرة والحكمة - وتلك إبداء الشيء في ضده - يتضح اختصاصه بالحق ، فهو الذي أطعم من جوع وآمن من خوف ، الذي جعل لكم من الشجر الأخضر نارا ، فهو - تعالى - اللطيف الذي لا لطيف إلا هو ، ثم قال : الخبرة إدراك خبايا الأشياء وخفاياها بحيث لا يبدو منه خبيثة أمر إلا كان إدراك الخبير سابقا لبدوها ، وذلك لا يتم إلا لمبديها الذي هو يخرج خبأها ، وهو الذي يخرج الخبء في السماوات والأرض ، ومخبرة الخلق لا بد فيها من إظهار باد ينبئ عن الخبء بمقتضى التجرية ، وإلا لم يصح لهم الخبرة ، كما قيل : مخبرة المرء فيما يبدو
[ ص: 222 ] من نطقه وما يظهره اليوم والليلة من عمله ، والخبير الحق خبير بالشيء دون باد يرى الظاهر خبيثة أمره ، [فهو] بالحقيقة الذي لا خبير إلا هو . [انتهى] .