ولما كان فيما تقدم الإخبار عن مغيب ، وهو أنهم لا يؤمنون عند مجيء الآيات المقترحة ، وكانت عادة
العرب دعاء الأعداء والمخالفين إلى حاكم يفصل بينهم ، وكانوا إنما يفزعون في الأمور المغيبة إلى الكهان لما كانوا يكشفون لهم بما يقذف إليهم إخوانهم من الجان مما يسترقونه من السمع ، فيزيدونه كذبا كثيرا ، ثم لا يضرهم ذلك عندهم لذلك القليل الذي يصدقون فيه - كما ابتلينا به في هذا الزمان من الافتتان بمن يفعل مثل ذلك من المجانين والمتشبهين بهم ، وكانت الآيات التي فرغ منها
[ ص: 235 ] قد أثبتت أن اتخاذهم غرور ، سبب عن ذلك وجوب نفي اتخاذهم غير الله لما اتصف به من إيحاء ما خالف إيحاءهم ، ففات القوى في إخباره عن حقائق الأمور مفصلة أحسن تفصيل في أساليب قصرت دونها سوابق الأفكار ، وكعت عنها نوافذ الأفهام ، فثبتت به نبوته ووضحت رسالته ، فكان اقتراحهم ظاهرا في كونه تعنتا ؛ لأنهم كذبوا بأعظم الآيات : القرآن ، ولم يؤمنوا به ، وطعنوا فيه بما زادهم فضائح ، فثبت أنه لا فائدة في إجابتهم إلى مقترحاتهم ، فكان الجواب - عما اقتضاه لسان حالهم من طلب التحاكم إلى أوليائهم ببليغ الإنكار عليهم [بقوله] :
أفغير الله أي : الملك الأعظم - على غاية من البلاغة لا تدرك ، والفاء فيه للسبب ، وإنما تقدمت عليها همزة الإنكار لاقتضائها الصدر
أبتغي أي : أطلب حال كون ذلك الغير
حكما أي : يحكم بيني وبينكم ويفصل نزاعنا; ثم استدل على هذا الإنكار بتفصيل الكتاب هذا التفصيل المعجز فقال :
وهو أي : والحال أنه لا غيره
الذي أنـزل إليكم أي : خاصة نعمة علي بالقصد الأول [وعليكم بالقصد الثاني]
الكتاب أي : الأكمل المعجز ، وهو هذا القرآن الذي هو تبيان لكل شيء
[ ص: 236 ] مفصلا أي : مميزا فيه الحلال والحرام ، وغير ذلك من جميع الأحكام ، مع ما تفيده فواصل الآيات من اللطائف والمعارف الكاشفة لحقائق البدايات والنهايات ، ولقد اشتد الاعتناء في هذه السورة بالتنبيه على التفصيل لوقوع العلم من أرباب البصائر في الصنائع بأن من لا يحسن التفصيل لا يتقن التركيب .
ولما كان التقدير : فأنتم وجميع أرباب البلاغة تعلمون حقيقته بتفصيله والعجز عن مثيله - عطف عليه قوله :
والذين ويجوز أن يكون جملة حالية
آتيناهم أي : بعظمتنا التي تعرفونها ويعرفون بها الحق من الباطل
الكتاب أي : المعهود إنزاله من التوراة والإنجيل والزبور
يعلمون أي : لما لهم من سوابق الأنس بالكتب الإلهية
أنه منـزل
ولما تقدم ذكر الجلالة الشريفة في ( حاق ) موضعه في سياق الحكم الذي لا يكون إلا مع التفرد بالكمال ، وكان هذا المقام بسياق الإنزال يقتضي الإحسان - لم يضمر ، بل قال :
من ربك أي : المحسن إليك بما خصك به في هذا الكتاب من أنواع الفضائل
بالحق أي : الأكمل لما عندهم به من البشائر في كتبهم ولما له من موافقتها في ذكر الأحكام المحكمة والمواعظ الحسنة وكثرة ذكر الله على وجوه ترقق القلوب
[ ص: 237 ] وتفيض الدموع وتصدع الصدور ، مع ما يزيد به على كتبهم من التفصيل بما يفهم معارف الإلهية والمقامات الصوفية في ضمن الأحكام السياسية والإعجاز بكل آية .
ولما كان أهل الكتاب يخفون ما عندهم من العلم ، ويقولون للمشركين : إنهم أهدى سبيلا ، بما قد يوهم أنهم يعتقدون بطلانه ، أو أن الأمر ملبس عليهم ، سبب عن إخباره - سبحانه - قوله على طريق التهييج والإلهاب :
فلا تكونن [أي انف نفيا مؤكدا جدا أن تكون في وقت ما]
من الممترين أي : العاملين عمل الشاك فيما أخبرناك به وإن زاد إخفاؤهم له وإظهارهم لما يوهم خلافه; وإذا حاربتهم في ذلك وأنت أفطن الناس وأعرفهم بما يظهره المجاوزات من خفايا الأسرار - تحققت ما قلناه وإن اجتهدوا في الكتمان ، كما كشفت عنه قصة المناشدة في أمر الزانيين وغيرها; وقال
أبو حيان : قال مشركو
قريش لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - : اجعل بيننا وبينك حكما من أحبار اليهود ، وإن شئت من أساقفة النصارى ، ليخبرنا عنك بما في كتابهم من أمرك - فنزلت .