صفحة جزء
آ . (24) قوله تعالى : إنما مثل : هذه الجملة سيقت لتشبيه الدنيا بنبات الأرض ، وقد شرح الله تعالى وجه التشبيه بما ذكر . قال الزمخشري : " هذا من التشبيه المركب ، شبهت حال الدنيا في سرعة تقضيها وانقراض نعيمها بعد الإقبال بحال نبات الأرض في جفافه وذهابه حطاما بعدما التف وتكاتف وزين الأرض بخضرته ورفيفه " ، قلت : التشبيه المركب في اصطلاح البيانيين : إما أن يكون طرفاه مركبين ، أي : تشبيه مركب بمركب كقول بشار بن برد :


2578 - كان مثار النقع فوق رءوسنا وأسيافنا ليل تهاوى كواكبه



وذلك أنه يشبه الهيئة الحاصلة من هوي أجرام مشرقة مستطيلة متناسبة [ ص: 177 ] المقدار متفرقة في جوانب شيء مظلم بليل سقطت كواكبه ، وإما أن يكون طرفاه مختلفين بالإفراد والتركيب . وتقسيماته في غير هذا الموضوع .

وقوله : كماء هو خبر المبتدأ ، و " أنزلناه " صفة لـ " ماء " ، و " من السماء " متعلق بـ " أنزلناه " ويضعف جعله حالا من الضمير المنصوب . وقوله : " فاختلط به " في هذه الباء وجهان ، أحدهما : أنها سببية . قال الزمخشري : " فاشتبك بسببه حتى خالط بعضه بعضا " ، وقال ابن عطية : " وصلت فرقة " النبات " بقوله : " فاختلط " . أي : اختلط النبات بعضه ببعض بسبب الماء " . والثاني : أنها للمصاحبة بمعنى أن الماء يجري مجرى الغذاء له فهو مصاحبه . وزعم بعضهم أن الوقف على قوله : " فاختلط " على أن الفعل ضمير عائد على الماء ، وتبتدئ به نبات الأرض على الابتداء والخبر . والضمير في " به " على هذا يجوز عوده على الماء ، وأن يعود على الاختلاط الذي تضمنه الفعل ، قاله ابن عطية . قال الشيخ : " الوقف على قوله : " فاختلط " لا يجوز ، وخاصة في القرآن لأنه تفكيك للكلام المتصل الصحيح والمعنى الفصيح ، وذهاب إلى اللغز والتعقيد " .

قوله : مما يأكل فيه وجهان ، أحدهما : أنه متعلق بـ " اختلط " وبه قال الحوفي . والثاني : أنه حال من " النبات " وبه قال أبو البقاء ، وهو الظاهر ، والعامل فيه محذوف على القاعدة المستقرة ، أي : كائنا أو مستقرا مما يأكل . ولو قيل " من " لبيان الجنس لجاز . وقوله : " حتى " غاية فلا بد لها من شيء مغيا ، والفعل الذي قبلها - وهو " اختلط " لا يصلح أن يكون مغيا لقصر زمنه .

[ ص: 178 ] فقيل : ثم فعل محذوف ، أي : لم يزل النبات ينمو حتى كان كيت وكيت . وقيل : يتجوز في " فاختلط " بمعنى : فدام اختلاطه حتى كان كيت وكيت . و " إذا " بعد " حتى " هذه تقدم التنبيه عليها .

قوله : وازينت قرأ الجمهور " ازينت " بوصل الهمزة وتشديد الزاي والياء ، والأصل " وتزينت " فلما أريد إدغام التاء في الزاي بعدها قلبت زايا وسكنت فاجتلبت همزة الوصل لتعذر الابتداء بالساكن فصار " ازينت " كما ترى ، وقد تقدم تحرير هذا عند قوله تعالى : فادارأتم فيها . وقرأ أبي بن كعب وعبد الله وزيد بن علي والأعمش " وتزينت " على تفعلت ، وهو الأصل المشار إليه . وقرأ سعد بن أبي وقاص والسلمي وابن يعمر والحسن والشعبي وأبو العالية ونصر بن عاصم وابن هرمز وعيسى الثقفي : " وأزينت " على وزن أفعلت وأفعل هنا بمعنى صار ذا كذا كأحصد الزرع وأغد البعير ، والمعنى : صارت ذا زينة ، أي : حضرت زينتها وحانت وكان من حق الياء على هذه القراءة أن تقلب ألفا فيقال : أزانت ، كأنابت فتعل بنقل حركتها إلى الساكن قبلها فتتحرك حينئذ ، وينفتح ما قبلها فتقلب ألفا كما تقدم ذلك في نحو : أقام وأناب ، إلا أنها صحت شذوذا كقوله : " أغيمت السماء ، وأغيلت المرأة " ، وقد ورد ذلك في القرآن نحو : استحوذ وقياسه استحاذ كاستقام .

وقرأ أبو عثمان النهدي - وعزاه ابن عطية لفرقة غير معينة " - [ ص: 179 ] وازيأنت " بهمزة وصل بعدها زاي ساكنة ، بعدها ياء مفتوحة خفيفة ، بعدها همزة مفتوحة ، بعدها نون مشددة . قالوا : وأصلها : وازيانت بوزن احمارت بألف صريحة ، ولكنهم كرهوا الجمع بين الساكنين فقلبت الألف همزة كقراءة " الضألين " و " جأن " . وعليه قولهم : " احمأرت " بالهمز وأنشد :


2579 - ... ... ... ...     إذا ما الهوادي بالعبيط احمأرت

وقد تقدم لك هذا مشبعا في أواخر الفاتحة . وقرأ أشياخ عوف ابن أبي جميلة : " وازيأنت " بالأصل المشار إليه ، وعزاها ابن عطية لأبي عثمان النهدي . وقرئ " وازاينت " والأصل : تزاينت فأدغم .

وقوله : أهلها ، أي : أهل نباتها . و " أتاها " هو جواب " إذا " فهو العامل فيها . وقيل : الضمير عائد على الزينة . وقيل : على الغلة ، أي : القوت فلا حذف حينئذ .

و " ليلا ونهارا " ظرفان للإتيان أو للأمر . والجعل هنا تصيير . وحصيد : فعيل بمعنى مفعول ؛ ولذلك لم يؤنث بالتاء وإن كان عبارة عن مؤنث كقولهم : امرأة جريح .

[ ص: 180 ] قوله : كأن لم تغن هذه الجملة يجوز أن تكون حالا من مفعول " جعلناها " الأول ، وأن تكون مستأنفة جوابا لسؤال مقدر . وقرأ مروان ابن الحكم " تتغن " بتاءين بزنة تتفعل ، ومثله قول الأعشى :


2580 - ... ... ... ...     طويل الثواء طويل التغن

وهو بمعنى الإقامة ، وقد تقدم تحقيقه في الأعراف . وقرأ الحسن وقتادة كأن لم يغن بياء الغيبة ، وفي هذا الضمير ثلاثة أوجه ، أجودها : أن يعود على الحصيد لأنه أقرب مذكور . وقيل : يعود على الزخرف ، أي : كأن لم يقم الزخرف . وقيل : يعود على النبات أو الزرع الذي قدرته مضافا ، أي : كأن لم يغن زرعها ونباتها .

و " بالأمس " المراد به الزمن الماضي لا اليوم الذي قبل يومك ، فهو كقول زهير :


2581 - وأعلم علم اليوم والأمس قبله     ولكنني عن علم ما في غد عم

لم يقصد بها حقائقها ، والفرق بين الأمسين أن الذي يراد به قبل يومك مبني لتضمنه معنى الألف واللام ، وهذا معرب تدخل عليه أل ويضاف .

وقوله : كذلك نفصل نعت مصدر محذوف ، أي : مثل هذا التفصيل الذي فصلناه في الماضي نفصل في المستقبل .

التالي السابق


الخدمات العلمية