آ. (19) قوله تعالى:
أو كصيب من السماء : في "أو" خمسة أقوال:
أظهرها: أنها للتفصيل بمعنى أن الناظرين في حال هؤلاء منهم من يشبههم بحال المستوقد الذي هذه صفته، ومنهم من يشبههم بأصحاب صيب هذه صفته.
الثاني: أنها للإبهام، أي: إن الله أبهم على عباده تشبيههم بهؤلاء أو بهؤلاء.
الثالث: أنها للشك، بمعنى أن الناظر يشك في تشبيههم.
الرابع: أنها للإباحة.
الخامس: أنها للتخيير، أي: أبيح للناس أن يشبهوهم بكذا أو بكذا، وخيروا في ذلك.
وزاد الكوفيون فيها معنيين آخرين، أحدهما: كونها بمعنى الواو وأنشدوا:
225 - جاء الخلافة أو كانت له قدرا كما أتى ربه موسى على قدر
والثاني: كونها بمعنى بل، وأنشدوا:
226 - بدت مثل قرن الشمس في رونق الضحى وصورتها أو أنت في العين أملح
أي: بل أنت.
و"كصيب" معطوف على "كمثل"، فهو في محل رفع، ولا بد من حذف مضافين ليصح المعنى، التقدير: أو كمثل ذوي صيب، ولذلك رجع عليه
[ ص: 168 ] ضمير الجمع في قوله:
يجعلون أصابعهم في آذانهم لأن المعنى على تشبيههم بأصحاب الصيب لا بالصيب نفسه.
والصيب: المطر: سمي بذلك لنزوله، يقال: صاب يصوب إذا نزل، قال:
227 - فلست لإنسي ولكن لملأك تنزل من جو السماء يصوب
وقال آخر:
228 - فلا تعدلي بيني وبين مغمر سقتك روايا المزن حيث تصوب
واختلف في وزن (صيب): فمذهب البصريين أنه "فيعل"، والأصل: صيوب فأدغم كميت وهين والأصل: ميوت وهيون.
وقال بعض الكوفيين : وزنه فعيل، والأصل: صويب بزنة طويل، قال النحاس: "وهذا خطأ؛ لأنه كان ينبغي أن يصح ولا يعل كطويل" وكذا قال
nindex.php?page=showalam&ids=14803أبو البقاء .
وقيل: وزنه: فعيل فقلب وأدغم.
واعلم أنه إذا قيل بأن الجملة من قوله:
ذهب الله بنورهم استئنافية ومن قوله
صم بكم عمي أنها من وصف المنافقين كانتا جملتي اعتراض
[ ص: 169 ] بين المتعاطفين، أعني قوله: (كمثل) و(كصيب)، وهي مسألة خلاف منعها
nindex.php?page=showalam&ids=12095الفارسي وقد رد عليه بقول الشاعر:
229 - لعمرك والخطوب مغيرات وفي طول المعاشرة التقالي
لقد باليت مظعن أم أوفى ولكن أم أوفى لا تبالي
ففصل بين القسم وهو قوله: "لعمرك" وبين جوابه وهو قوله: "لقد باليت" بجملتين، إحداهما: "والخطوب مغيرات" والثانية: "وفي طول المعاشرة التقالي".
[قوله:] "من السماء" يحتمل وجهين، أحدهما أن يكون متعلقا بـ "صيب"؛ لأنه يعمل عمل الفعل، التقدير: كمطر يصوب من السماء، و"من" لابتداء الغاية.
والثاني: أن يكون في محل جر صفة لصيب، فيتعلق بمحذوف، وتكون "من" للتبعيض، ولا بد حينئذ من حذف مضاف، تقديره: كصيب كائن من أمطار السماء.
والسماء: كل ما علاك من سقف ونحوه، مشتقة من السمو، وهو الارتفاع، والأصل: سماو، وإنما قلبت الواو همزة لوقوعها طرفا بعد ألف زائدة، وهو بدل مطرد، نحو: كساء ورداء، بخلاف نحو: سقاية وشقاوة؛ لعدم تطرف حرف العلة، ولذلك لما دخلت عليها تاء التأنيث صحت نحو: سماوة، قال الشاعر:
[ ص: 170 ] 230 - طي الليالي زلفا فزلفا سماوة الهلال حتى احقوقفا
والسماء مؤنث، وقد تذكر، وأنشدوا:
231 - فلو رفع السماء إليه قوما لحقنا بالسماء مع السحاب
فأعاد الضمير من قوله: "إليه" على السماء مذكرا، ويجمع على سماوات وأسمية وسمي، والأصل: فعول، إلا أنه أعل إعلال عصي بقلب الواوين يائين وهو قلب مطرد في الجمع، ويقل في المفرد نحو: عتا عتيا، كما شذ التصحيح في الجمع، قالوا: "إنكم تنظرون في نحو كثيرة"، وجمع - أيضا - على سماء، ولكن مفرده سماوة، فيكون من باب تمرة وتمر، ويدل على ذلك قوله:
232 - . . . . . . فوق سبع سمائيا
ووجه الدلالة أنه ميز به "سبع"، ولا تميز هي وأخواتها إلا بجمع مجرور.
قوله تعالى: "فيه ظلمات ورعد وبرق" يحتمل أربعة أوجه:
أحدها: أن يكون صفة لـ "صيب".
الثاني: أن يكون حالا منه، وإن كان نكرة لتخصصه: إما بالعمل في الجار بعده، أو بصفة بالجار بعده.
الثالث: أن يكون حالا من الضمير المستكن في "من السماء" إذا قيل إنه صفة لصيب، فيتعلق في
[ ص: 171 ] التقادير الثلاثة بمحذوف، إلا أنه على القول الأول في محل جر لكونه صفة لمجرور، وعلى القولين الأخيرين في محل نصب على الحال.
و"ظلمات" على جميع هذه الأقوال فاعل به؛ لأن الجار والمجرور والظرف متى اعتمدا على موصوف أو ذي حال أو ذي خبر أو على نفي أو استفهام عملا عمل الفعل،
nindex.php?page=showalam&ids=13674والأخفش يعملهما مطلقا كالوصف، وسيأتي تحرير ذلك.
الرابع: أن يكون خبرا مقدما و"ظلمات" مبتدأ، والجملة تحتمل وجهين: الجر على أنها صفة لصيب، والثاني: النصب على الحال، وصاحب الحال يحتمل أن يكون "كصيب" وإن كان نكرة لتخصيصه بما تقدمه، وأن يكون الضمير المستكن في "من السماء" إذا جعل وصفا لصيب، والضمير في "فيه" ضمير الصيب".
واعلم أن جعل الجار صفة أو حالا ورفع "ظلمات" على الفاعلية به أرجح من جعل "فيه ظلمات" جملة برأسها في محل صفة أو حال؛ لأن الجار أقرب إلى المفرد من الجملة، وأصل الصفة والحال أن يكونا مفردين.
"ورعد وبرق" معطوفان "على ظلمات" بالاعتبارين المتقدمين، وهما في الأصل مصدران تقول: رعدت السماء ترعد رعدا وبرقت برقا، قال
nindex.php?page=showalam&ids=14803أبو البقاء : "وهما على ذلك [موحدتان] هنا "، يعني على المصدرية، ويجوز أن يكونا بمعنى الراعد والبارق نحو: رجل عدل، والظاهر أنهما في الآية ليس المراد بهما المصدر بل جعلا اسما للهز واللمعان، وهو مقصود الآية، ولا حاجة حينئذ إلى جعلهما بمعنى اسم فاعل.
قوله تعالى:
يجعلون أصابعهم في آذانهم هذه الجملة الظاهر أنها لا محل لها لاستئنافها، كأنه قيل: ما حالهم؟ فقيل: يجعلون.
وقيل: بل لها
[ ص: 172 ] محل، ثم اختلف فيه، فقيل: جر؛ لأنها صفة للمجرور، أي: أصحاب صيب جاعلين، والضمير محذوف، أو نابت الألف واللام منابه، تقديره: يجعلون أصابعهم في آذانهم من الصواعق منه أو من صواعقه.
وقيل: محلها نصب على الحال من الضمير "فيه".
والكلام في العائد كما تقدم، والجعل هنا بمعنى الإلقاء، ويكون بمعنى الخلق فيتعدى لواحد، ويكون بمعنى صير أو سمى فيتعدى لاثنين، ويكون للشروع فيعمل عمل عسى.
و(أصابعهم) جمع إصبع، وفيها عشر لغات، بتثليث الهمزة مع تثليث الباء، والعاشرة: أصبوع بضم الهمزة.
والواو في "يجعلون" تعود للمضاف المحذوف كما تقدم إيضاحه.
واعلم أنه إذا حذف المضاف جاز فيه اعتباران:
أحدهما: أن يلتفت إليه.
والثاني ألا يلتفت إليه، وقد جمع الأمران في قوله تعالى:
وكم من قرية أهلكناها فجاءها بأسنا بياتا أو هم قائلون التقدير: وكم من أهل قرية فلم يراعه في قوله:
أهلكناها [فجاءها ] وراعاه في قوله:
أو هم قائلون .
و
في آذانهم من الصواعق كلاهما متعلق بالجعل، و"من" معناها التعليل.
والصواعق: جمع صاعقة، وهي الصيحة الشديدة من صوت الرعد يكون معها القطعة من النار، ويقال: ساعقة بالسين، وصاقعة بتقديم القاف وأنشد:
233 - ألم تر أن المجرمين أصابهم صواقع، لا بل هن فوق الصواقع
ومثله قول الآخر:
[ ص: 173 ] 234 - يحكمون بالمصقولة القواطع تشقق اليدين بالصواقع
وهي قراءة
nindex.php?page=showalam&ids=14102الحسن، قال
nindex.php?page=showalam&ids=12940النحاس: "وهي لغة تميم وبعض بني ربيعة" فيحتمل أن تكون صاقعة مقلوبة من صاعقة، ويحتمل ألا تكون، وهو الأظهر لثبوتها لغة مستقلة كما تقدم، ويقال: صعقة أيضا، وقد قرأ بها
nindex.php?page=showalam&ids=15080الكسائي في الذاريات، يقال: صعق زيد وأصعقه غيره: قال:
235 - ترى النعرات الزرق تحت لبانه أحاد ومثنى أصعقتها صواهله
قوله تعالى:
حذر الموت فيه وجهان:
أظهرهما: أنه مفعول من أجله ناصبه "يجعلون" ولا يضر تعدد المفعول من أجله؛ لأن الفعل يعلل بعلل.
الثاني: أنه منصوب على المصدر وعامله محذوف تقديره: يحذرون حذرا مثل حذر الموت، والحذر والحذار مصدران لـ(حذر) أي: خاف خوفا شديدا.
واعلم أن المفعول من أجله بالنسبة إلى نصبه وجره بالحرف على ثلاثة أقسام:
قسم يكثر نصبه وهو ما كان غير معرف بأل مضاف نحو: جئت إكراما لك، وقسم عكسه، وهو ما كان معرفا بأل، ومن مجيئه منصوبا قول الشاعر:
236 - لا أقعد الجبن عن الهيجاء ولو توالت زمر الأعداء
[ ص: 174 ] وقسم يستوي فيه الأمران وهو المضاف كالآية الكريمة، ويكون معرفة ونكرة، وقد جمع حاتم الطائي الأمرين في قوله:
237 - وأغفر عوراء الكريم ادخاره وأعرض عن شتم اللئيم تكرما
و"حذر الموت "مصدر مضاف إلى المفعول، وفاعله محذوف، وهو أحد المواضع التي يجوز فيها حذف الفاعل وحده، [والثاني: فعل ما لم يسم فاعله، والثالث: فاعل أفعل في التعجب على الصحيح، وما عدا هذه لا يجوز فيه حذف الفاعل وحده] خلافا للكوفيين.
والموت ضد الحياة يقال: مات يموت ويمات، قال الشاعر:
238 - بنيتي سيدة البنات عيشي ولا يؤمن أن تماتي
وعلى هذه اللغة قرئ: متنا ومت بكسر الميم كخفنا وخفت، فوزن مات على اللغة الأولى: فعل بفتح العين، وعلى الثانية: فعل بكسرها، والموات بالضم الموت أيضا، وبالفتح: ما لا روح فيه، والموتان بالتحريك ضد الحيوان، ومنه قولهم "اشتر الموتان ولا تشتر الحيوان "، أي: اشتر الأرضين ولا تشتر الرقيق فإنه في معرض الهلاك.
والموتان بضم الميم: وقوع الموت في الماشية، وموت فلان بالتشديد للمبالغة، قال:
[ ص: 175 ] 239 - فعروة مات موتا مستريحا فها أنا ذا أموت كل يوم
والمستميت: الأمر المسترسل، قال رؤبة:
240 - وزبد البحر له كتيت والليل فوق الماء مستميت
قوله تعالى:
والله محيط بالكافرين جملة من مبتدأ وخبر، وأصل محيط: محوط؛ لأنه من حاط يحوط فأعل كإعلال نستعين.
والإحاطة: حصر الشيء من جميع جهاته، وهو هنا عبارة عن كونهم تحت قهره، ولا يفوتونه، وقيل: ثم مضاف محذوف، أي عقابه محيط بهم.
وهذه الجملة قال
nindex.php?page=showalam&ids=14423الزمخشري : "هي اعتراض لا محل لها من الإعراب " كأنه يعني بذلك أن جملة قوله: يجعلون أصابعهم، وجملة قوله: "يكاد البرق "شيء واحد؛ لأنهما من قصة واحدة فوقع ما بينهما اعتراضا.