آ. (20) قوله تعالى:
يكاد البرق يخطف أبصارهم : "يكاد" مضارع كاد، وهي لمقاربة الفعل، تعمل عمل "كان"، إلا أن خبرها لا يكون إلا مضارعا، وشذ مجيئه اسما صريحا، قال:
241 - فأبت إلى فهم وما كدت آيبا وكم مثلها فارقتها وهي تصفر
والأكثر في خبرها تجرده من "أن" عكس "عسى"، وقد شذ اقترانه بها، وقال
nindex.php?page=showalam&ids=15876رؤبة: [ ص: 176 ] 242 - قد كاد من طول البلى أن يمحصا ... ... ... ...
لأنها لمقاربة الفعل، و"أن" تخلص للاستقبال، فتنافا.
واعلم أن خبرها - إذا كانت هي مثبتة - منفي في المعنى لأنها للمقاربة، فإذا قلت: "كاد زيد يفعل" كان معناه قارب الفعل، إلا أنه لم يفعل، فإذا نفيت انتفى خبرها بطريق الأولى؛ لأنه إذا انتفت مقاربة الفعل انتفى هو من باب أولى، ولهذا كان قوله تعالى:
لم يكد يراها أبلغ من أن لو قيل: لم يرها؛ لأنه لم يقارب الرؤية فكيف له بها؟ وزعم جماعة منهم
nindex.php?page=showalam&ids=13042ابن جني nindex.php?page=showalam&ids=14803وأبو البقاء nindex.php?page=showalam&ids=13365وابن عطية أن نفيها إثبات وإثباتها نفي، حتى ألغز بعضهم فيها فقال:
243 - أنحوي هذا العصر ما هي لفظة جرت في لساني جرهم وثمود
إذا نفيت - والله أعلم - أثبتت وإن أثبتت قامت مقام جحود
وحكوا عن
nindex.php?page=showalam&ids=15871ذي الرمة أنه لما أنشد قوله:
244 - إذا غير النأي المحبين لم يكد رسيس الهوى من حب مية يبرح
عيب عليه؛ لأنه قال: لم يكد يبرح فيكون قد برح، فغيره إلى قوله: "لم يزل" أو ما هو بمعناه، والذي غر هؤلاء قوله تعالى:
فذبحوها وما كادوا يفعلون قالوا: فهي هنا منفية وخبرها مثبت في المعنى؛ لأن الذبح وقع
[ ص: 177 ] لقوله:
"فذبحوها".
والجواب عن هذه الآية من وجهين:
أحدهما: أنه يحمل على اختلاف وقتين، أي: ذبحوها في وقت، وما كادوا يفعلون في وقت آخر.
والثاني: أنه عبر بنفي مقاربة الفعل عن شدة تعنتهم وعسرهم في الفعل.
وأما ما حكوه عن
nindex.php?page=showalam&ids=15871ذي الرمة فقد غلط الجمهور ذا الرمة في رجوعه عن قوله، وقالوا: هو أبلغ وأحسن مما غيره إليه.
واعلم أن خبر "كاد" وأخواتها غير عسى لا يكون فاعله إلا ضميرا عائدا على اسمها؛ لأنها للمقاربة أو للشروع بخلاف عسى فإنها للترجي، تقول: "عسى زيد أن يقوم أبوه"، ولا يجوز ذلك في غيرها، فأما قوله:
245 - وقفت على ربع لمية ناقتي فما زلت أبكي عنده وأخاطبه
وأسقيه حتى كاد مما أبثه تكلمني أحجاره وملاعبه
فأتى بالفاعل ظاهرا فقد حمله بعضهم على الشذوذ، وينبغي أن يقال: إنما جاز ذلك لأن الأحجار والملاعب هي عبارة عن الربع، فهي هو، فكأنه قيل: حتى كاد يكلمني، ولكنه عبر عنه بمجموع أجزائه، وقول الأخر:
246 - وقد جعلت إذا ما قمت يثقلني ثوبي فأنهض نهض الشارب السكر
وكنت أمشي على رجلين معتدلا فصرت أمشي على أخرى من الشجر
فأتى بفاعل [خبر] جعل ظاهرا، فقد أجيب عنه بوجهين: أحدهما: أنه على حذف مضاف تقديره: وقد جعل ثوبي إذا ما قمت يثقلني.
والثاني: أنه من باب إقامة السبب مقام المسبب، فإن نهوضه كذا متسبب عن إثقال
[ ص: 178 ] ثوبه إياه، والمعنى: وقد جعلت أنهض نهض الشارب الثمل لإثقال ثوبي إياي.
ووزن كاد كود بكسر العين، وهي من ذوات الواو، كخاف يخاف، وفيها لغة أخرى: فتح عينها، فعلى هذه اللغة تضم فاؤها إذا أسندت إلى تاء المتكلم وأخواتها، فتقول: كدت وكدنا مثل: قلت وقلنا، وقد تنقل كسرة عينها إلى فائها مع الإسناد إلى ظاهر، كقوله:
247 - وكيد ضباع القف يأكلن جثتي وكيد خراش عند ذلك ييتم
ولا يجوز زيادتها خلافا
nindex.php?page=showalam&ids=13674للأخفش، وسيأتي هذا كله في "كاد" الناقصة، أما "كاد" التامة بمعنى مكر فإنها فعل بفتح العين من ذوات الياء، بدليل قوله:
إنهم يكيدون كيدا وأكيد كيدا .
و"البرق" اسمها، و"يخطف" خبرها، ويقال: خطف يخطف بكسر عين الماضي وفتح المضارع، وخطف يخطف، عكس اللغة الأولى، وفيه قراءات كثيرة، المشهور منها الأولى.
الثانية: يخطف بكسر الطاء.
[ ص: 179 ] الثالثة يخطف بفتح الياء والخاء والطاء مع تشديد الطاء، والأصل: يختطف، فأبدلت تاء الافتعال طاء للإدغام.
الرابعة: كذلك إلا أنه بكسر الطاء على أصل التقاء الساكنين.
الخامسة: كذلك إلا أنه بكسر الخاء إتباعا لكسرة الطاء.
السادسة: كذلك إلا أنه بكسر الياء - أيضا - إتباعا للخاء.
السابعة: يختطف على الأصل.
الثامنة: يخطف بفتح الياء وسكون الخاء وتشديد الطاء، وهي رديئة لتأديتها على التقاء ساكنين.
التاسعة: بضم الياء وفتح الخاء وتشديد الطاء مكسورة، والتضعيف فيه للتكثير لا للتعدية.
العاشرة: يتخطف.
والخطف: أخذ شيء بسرعة، وهذه الجملة - أعني قوله: يكاد البرق يخطف - لا محل لها؛ لأنها استئناف، كأنه قيل: كيف يكون حالهم مع ذلك البرق؟ فقيل: يكاد يخطف، ويحتمل أن يكون في محل جر صفة لذوي المحذوفة، التقدير: أو كذوي صيب كائد البرق يخطف.
قوله تعالى:
كلما أضاء لهم مشوا فيه : "كل" نصب على الظرفية؛ لأنها أضيفت إلى "ما" الظرفية، والعامل فيها جوابها، وهو "مشوا".
وقيل:
[ ص: 180 ] "ما" نكرة موصوفة، ومعناها الوقت أيضا، والعائد محذوف، تقديره: كل وقت أضاء لهم فيه، فأضاء على الأول لا محل له لكونه صلة، ومحله الجر على الثاني.
و"أضاء" يجوز أن يكون لازما، وقال
nindex.php?page=showalam&ids=15153المبرد: "هو متعد ومفعوله محذوف"، أي: أضاء لهم البرق الطريق، فالهاء في "فيه" تعود على البرق في قول الجمهور، وعلى الطريق المحذوف في قول
nindex.php?page=showalam&ids=15153المبرد.
و"فيه" متعلق بـ(مشوا)، و"في" على بابها أي: إنه محيط بهم: وقيل: هي بمعنى الباء، ولا بد من حذف على القولين، أي: مشوا في ضوئه أي بضوئه، ولا محل لجملة قوله "مشوا" لأنها مستأنفة.
واعلم أن "كلا" من ألفاظ العموم، وهو اسم جمع لازم للإضافة، وقد يحذف ما يضاف إليه، وهل تنوينه حينئذ تنوين عوض أو تنوين صرف؟ قولان.
والمضاف إليه "كل" إن كان معرفة وحذف بقيت على تعريفها، فلهذا انتصب عنها الحال، ولا يدخلها الألف واللام، وإن وقع ذلك في عبارة بعضهم، وربما انتصبت حالا، وأصلها أن تستعمل توكيدا كأجمع، والأحسن استعمالها مبتدأ، وليس كونها مفعولا بها مقصورا على السماع، ولا مختصا بالشعر خلافا لزاعم ذلك.
وإذا أضيفت إلى نكرة أو معرفة بلام الجنس حسن أن تلي العوامل اللفظية، وإذا أضيفت إلى نكرة تعين اعتبار تلك النكرة فيما لها من ضمير وغيره، تقول: كل رجال أتوك فأكرمهم، ولا يجوز أن يراعى لفظ "كل" فتقول: كل رجال أتاك فأكرمه، و[تقول]: كل رجل أتاك فأكرمه، ولا تقول: أتوك فأكرمهم، اعتبارا بالمعنى، فأما قوله:
248 - جادت عليه كل عين ثرة فتركن كل حديقة كالدرهم
[ ص: 181 ] فراعى المعنى فهو شاذ لا يقاس عليه، وإذا أضيفت إلى معرفة فوجهان، سواء كانت الإضافة لفظا نحو:
وكلهم آتيه يوم القيامة فردا فراعى لفظ كل، أو معنى نحو:
فكلا أخذنا بذنبه فراعى لفظها، وقال:
وكل أتوه داخرين فراعى المعنى.
وقول بعضهم: إن "كلما" تفيد التكرار، ليس ذلك من وضعها، فإنك إذا قلت: "كلما جئتني أكرمتك" كان المعنى: أكرمك في كل فرد فرد من جيئاتك إلي.
وقرئ "ضاء" ثلاثيا، وهي تدل على أن الرباعي لازم.
وقرئ: "وإذا أظلم" مبنيا للمفعول، وجعله
nindex.php?page=showalam&ids=14423الزمخشري دالا على أن أظلم متعد، واستأنس - أيضا - بقول
حبيب: 249 - هما أظلما حالي ثمت أجليا ظلاميهما عن وجه أمرد أشيب
ولا دليل في الآية لاحتمال أن أصله: وإذا أظلم الليل عليهم، فلما بني للمفعول حذف "الليل" وقام "عليهم" مقامه، وأما حبيب فمولد.
وإنما صدرت الجملة الأولى بكلما، والثانية بإذا، قال
nindex.php?page=showalam&ids=14423الزمخشري : "لأنهم حراص على وجود ما همهم به معقود من إمكان المشي وتأتيه، فكلما صادفوا منه فرصة انتهزوها، وليس كذلك التوقف والتحبس" وهذا الذي قاله
[ ص: 182 ] هو الظاهر، إلا أن من النحويين من جعل أن "إذا" تفيد التكرار أيضا، وأنشد:
250 - إذا وجدت أوار الحب في كبدي أقبلت نحو سقاء القوم أبترد
قال: "معناها معنى كلما".
قوله تعالى:
ولو شاء الله لذهب بسمعهم وأبصارهم "لو" حرف لما كان سيقع لوقوع غيره، هذه عبارة
nindex.php?page=showalam&ids=16076سيبويه ، وهي أولى من عبارة غيره: حرف امتناع لامتناع لصحة العبارة الأولى في نحو قوله تعالى:
لو كان البحر مدادا لكلمات ربي لنفد البحر وفي قوله عليه السلام:
"نعم العبد صهيب لو لم يخف الله لم يعصه"، وعدم صحة الثانية في ذلك كما سيأتي محررا، ولفساد نحو قولهم: "لو كان إنسانا لكان حيوانا" إذ لا يلزم من امتناع الإنسان امتناع الحيوان، ولا يجزم بها خلافا لقوم، فأما قوله:
251 - لو يشأ طار به ذو ميعة لاحق الآطال نهد ذو خصل
وقول الآخر:
252 - تامت فؤادك لو يحزنك ما صنعت إحدى نساء بني ذهل بن شيبانا
[ ص: 183 ] فمن تسكين المحرك ضرورة، وأكثر ما تكون شرطا في الماضي، وقد تأتي بمعنى إن كقوله تعالى:
وليخش الذين لو تركوا من خلفهم ذرية ضعافا خافوا عليهم وقوله:
253 - ولو أن ليلى الأخيلية سلمت علي ودوني جندل وصفائح
لسلمت تسليم البشاشة أو زقا إليها صدى من جانب القبر صائح
ولا تكون مصدرية على الصحيح، وقد تشرب معنى التمني فتنصب المضارع بعد الفاء جوابا لها نحو:
فلو أن لنا كرة فنكون وسيأتي تحريره في موضعه.
و"شاء" أصله: شيئ على فعل بكسر العين، وإنما قلبت الياء ألفا للقاعدة الممهدة.
ومفعوله محذوف تقديره: ولو شاء الله إذهاب، وكثر حذف مفعوله ومفعول "أراد" حتى لا يكاد ينطق به إلا في الشيء المستغرب كقوله:
254 - ولو شئت أن أبكي دما لبكيته عليه ولكن ساحة الصبر أوسع
قال تعالى:
لو أراد الله أن يتخذ ولدا .
واللام في "ذهب" جواب لو.
واعلم أن جوابها يكثر دخول اللام عليه مثبتا، وقد تحذف، قال تعالى:
لو نشاء جعلناه أجاجا ويقل دخولها
[ ص: 184 ] عليه منفيا بـ "ما"، ويمتنع دخولها عليه منفيا بغير "ما" نحو: لو قمت لم أقم، لتوالي لامين فيثقل، وقد يحذف كقوله:
255 - لا يلفك الراجوك إلا مظهرا خلق الكرام ولو تكون عديما
و"بسمعهم" متعلق بذهب.
وقرئ: "لأذهب" فتكون الباء زائدة، أو يكون فعل وأفعل بمعنى، ونحوه:
تنبت بالدهن .
قوله تعالى:
إن الله على كل شيء قدير هذه جملة مؤكدة لمعنى ما قبلها، و"على كل شيء" متعلق بقدير، وهو فعيل بمعنى فاعل مشتق من القدرة وهي القوة والاستطاعة، وفعلها قدر بفتح العين، وله ثلاثة عشر مصدرا: قدرة بتثليث القاف، ومقدرة بتثليث الدال، وقدرا وقدرا وقدرا وقدارا وقدرانا ومقدرا ومقدرا.
وقدير أبلغ من قادر قاله
nindex.php?page=showalam&ids=14416الزجاج .
وقيل: هما بمعنى، قاله
الهروي.
والشيء: ما صح أن يعلم من وجه، ويخبر عنه، وهو في الأصل مصدر شاء يشاء ، وهل يطلق على المعدوم والمستحيل؟ خلاف مشهور.