صفحة جزء
آ . (179) قوله تعالى : ما كان الله ليذر : هذه تسمى لام الجحود ، وينصب بعدها المضارع بإضمار "أن " ولا يجوز إظهارها . والفرق بنيها وبين لام كي أن هذه على المشهور شرطها أن تكون بعد كون منفي ، ومنهم من يشترط مضي الكون ، ومنهم من لم يشترط الكون ، ولهذه الأقوال دلائل واعتراضات مذكورة في كتب النحو استغنيت عنها هنا بما ذكرته في "شرح التسهيل " .

وفي خبر "كان " في هذا الموضع وما أشبهه قولان ، أحدهما : - وهو قول البصريين - أنه محذوف وأن اللام مقوية لتعدية ذلك الخبر المقدر لضعفه ، والتقدير : ما كان الله مريدا لأن يذر ، فـ "أن يذر " هو مفعول "مريدا " ، والتقدير : ما كان الله مريدا ترك المؤمنين . والثاني - قول الكوفيين - : أن اللام زائدة لتأكيد النفي وأن الفعل بعدها هو خبر "كان " ، واللام عندهم هي العاملة النصب في الفعل بنفسها لا بإضمار "أن " ، والتقدير عندهم : ما كان الله يذر المؤمنين .

وضعف أبو البقاء مذهب الكوفيين بأن النصب قد وجد بعد هذه اللام ، فإن كان النصب بها نفسها فليست زائدة ، وإن كان النصب بإضمار "أن " فسد من جهة المعنى لأن "أن " وما في حيزها بتأويل مصدر ، والخبر في باب "كان " هو الاسم في المعنى فيلزم أن يكون المصدر الذي هو معنى من المعاني صادقا على اسمها وهو محال " .

[ ص: 508 ] أما قوله : " إن كان النصب بها فليست زائدة "فممنوع ؛ لأن العمل لا يمنع الزيادة ، ألا ترى أن حروف الجر تزاد وهي عاملة ، وكذلك " أن "عند الأخفش و " كان "في قوله :


1500 - ... ... ... ... وجيران لنا كانوا كرام



وقد تقدم تحقيق ذلك في غير موضع .

و " يذر "فعل لا يتصرف كـ " يدع "استغناء عنه بتصرف مرادفه وهو " ترك " ، وحذفت الواو من " يذر "من غير موجب تصريفي ، وإنما حملت على " يدع "لأنها بمعناها ، و " يدع "حذفت منه الواو لموجب وهو وقوع الواو بين ياء وكسرة مقدرة ، وأما الواو في " يذر "فوقعت بين ياء وفتحة أصلية ، وقد تقدم تحقيق القول فيه عند قوله تعالى : وذروا ما بقي من الربا .

قوله : حتى يميز " حتى "هنا قيل : للغاية المجردة بمعنى " إلى " ، والفعل بعدها منصوب بإضمار " أن " ، وقد تقدم تحقيقه في البقرة . والغاية هنا مشكلة على ظاهر اللفظ ؛ لأنه يصير المعنى أنه تعالى لا يترك المؤمنين على ما أنتم عليه إلى هذه الغاية وهي التمييز بين الخبيث والطيب ، ومفهومه أنه إذا وجدت الغاية ترك المؤمنين على ما أنتم عليه . وهذا ظاهر ما قالوه من كونها للغاية ، وليس المعنى على ذلك قطعا ، ويصير هذا نظير قولك : "لا أكلم زيدا حتى يقدم عمرو " فالكلام منتف إلى قدوم عمرو . والجواب عنه : أن "حتى " غاية لما يفهم من معنى هذا الكلام ، ومعناه أنه تعالى يخلص ما بينكم بالابتلاء والامتحان إلى أن يميز الخبيث من الطيب .

[ ص: 509 ] وقرأ حمزة والكسائي هنا وفي الأنفال : "يميز " بالتشديد ، والباقون بالتخفيف . وعن ابن كثير أيضا "يميز " من أماز ، فهذه ثلاث لغات ، يقال مازه وميزه وأمازه . والتشديد والهمزة ليسا للنقل ، لأن الفعل قبلهما متعد ، وإنما فعل بالتشديد وأفعل بمعنى المجرد ، وهل ماز وميز بمعنى واحد أو بمعنيين مختلفين ؟ قولان . ثم القائلون بالفرق اختلفوا ، فقال بعضهم : لا يقال "ماز " إلا في كثير من كثير ، فأما واحد من واحد فميزت ، ولذلك قال أبو معاذ : يقال : "ميزت بين الشيئين ومزت بين الأشياء " . وقال بعضهم عكس هذا : مزت بين الشيئين وميزت بين الأشياء ، وهذا هو القياس ، فإن التضعيف يؤذن بالتكثير وهو لائق بالمتعددات . ورجح بعضهم "ميز " بالتشديد بأنه أكثر استعمالا ، ولذلك لم يستعمل المصدر إلا منه فقالوا : التمييز ، ولم يقولوا : "الميز " يعني لم يقولوه سماعا وإلا فهو جائز قياسا .

قوله : ولكن الله هذا استدراك من معنى الكلام المتقدم ، لأنه لما قال تعالى : وما كان الله ليطلعكم توهم أنه لا يطلع أحدا على غيبه لعموم الخطاب فاستدرك الرسل ، والمعنى : ولكن الله يجتبي أي - يصطفي - من رسله من يشاء فيطلعه على الغيب ، فهو ضد لما قبله في المعنى ، وقد تقدم أنها تقع بين ضدين ونقيضين ، وفي الخلافين خلاف .

و "يجتبي " : يصطفي ويختار ، يفتعل من جبوت المال والماء وجبيتهما لغتان ، فالياء في "يجتبي " يحتمل أن تكون على أصلها ، وأن تكون منقلبة من واو لانكسار ما قبلها .

[ ص: 510 ] ومفعول "يشاء " محذوف ، وينبغي أن يقدر ما يليق بالمعنى ، والتقدير : من يشاء إطلاعه على الغيب .

التالي السابق


الخدمات العلمية