آ. (91) قوله تعالى:
ويكفرون بما وراءه : يجوز في هذه الجملة وجهان:
أحدهما: أن تكون استئنافية استؤنفت للإخبار بأنهم يكفرون بما عدا التوراة فلا محل لها من الإعراب.
والثاني أن تكون خبرا لمبتدأ محذوف، أي: وهم يكفرون، والجملة في محل نصب على الحال، والعامل فيها "قالوا" أي قالوا: نؤمن حال كونهم كافرين بكذا، ولا يجوز أن
[ ص: 514 ] يكون العامل فيها "نؤمن"، قال
nindex.php?page=showalam&ids=14803أبو البقاء : "إذ لو كان كذلك لكان لفظ الحال ونكفر أو ونحن نكفر"، يعني فكان يجب المطابقة، ولا بد من إضمار هذا المبتدأ لما تقدم من أن المضارع المثبت لا يقترن بالواو وهو نظير قوله:
613 - ... ... ... ... نجوت وأرهنهم مالكا
وحذف الفاعل من قوله:
بما أنزل وأقيم المفعول مقامه للعلم به، إذ لا ينزل الكتب السماوية إلا الله، أو لتقدم ذكره في قوله:
بما أنزل الله .
قوله:
بما وراءه متعلق بيكفرون، وما موصولة، والظرف صلتها، فمتعلقه فعل ليس إلا.
والهاء في "وراءه" تعود على "ما" في قوله:
نؤمن بما أنزل .
ووراء من الظروف المتوسطة التصرف، وهو ظرف مكان، والمشهور أنه بمعنى خلف وقد يكون بمعنى أمام، فهو من الأضداد، وفسره
nindex.php?page=showalam&ids=14888الفراء هنا بمعنى "سوى" التي بمعنى "غير"، وفسره
nindex.php?page=showalam&ids=12078أبو عبيدة nindex.php?page=showalam&ids=16815وقتادة بمعنى "بعد".
وفي همزه قولان:
أحدهما: أنه أصل بنفسه وإليه ذهب
nindex.php?page=showalam&ids=13042ابن جني مستدلا بثبوتها في التصغير في قولهم: وريئة.
والثاني: أنها من ياء لقولهم: تواريت قاله
nindex.php?page=showalam&ids=14803أبو البقاء ، وفيه نظر.
ولا يجوز أن تكون الهمزة بدلا من واو لأن ما فاؤه واو لا تكون لامه واوا إلا ندورا نحو "واو" اسم حرف الهجاء، وحكمه حكم قبل
[ ص: 515 ] وبعد في كونه إذا أضيف أعرب، وإذا قطع بني على الضم وأنشد
nindex.php?page=showalam&ids=13674الأخفش على ذلك قول الشاعر:
614 - إذا أنا لم أومن عليك ولم يكن لقاؤك إلا من وراء وراء
وفي الحديث عن
إبراهيم صلى الله عليه وسلم:
nindex.php?page=hadith&LINKID=855979 "كنت خليلا من وراء وراء"، وثبوت الهاء في مصغرها شاذ؛ لأن ما زاد من المؤنث على ثلاثة لا تثبت الهاء في مصغره إلا في لفظتين شذتا وهما: وريئة وقديديمة: تصغير: وراء وقدام.
قال
ابن عصفور: "لأنهما لم يتصرفا فلو لم يؤنثا في التصغير لتوهم تذكيرهما".
قوله:
وهو الحق مبتدأ وخبر، والجملة في محل نصب على الحال، والعامل فيها قوله: "ويكفرون" وصاحبها فاعل (يكفرون).
وأجاز
nindex.php?page=showalam&ids=14803أبو البقاء أن يكون العامل الاستقرار الذي في قوله
بما وراءه أي: بالذي استقر وراءه وهو الحق.
قوله:
مصدقا حال مؤكدة لأن قوله
وهو الحق قد تضمن معناها، والحال المؤكدة: إما أن تؤكد عاملها نحو: " ولا تعثوا في الأرض مفسدين " وإما أن تؤكد مضمون جملة.
فإن كان الثاني التزم إضمار عاملها وتأخيرها عن الجملة، ومثله ما أنشد
nindex.php?page=showalam&ids=16076سيبويه :
[ ص: 516 ] 615 - أنا ابن دارة معروفا بها نسبي وهل بدارة يا للناس من عار
والتقدير: وهو الحق أحقه مصدقا، وابن دارة أعرف معروفا، هذا تقدير كلام النحويين.
وأما
nindex.php?page=showalam&ids=14803أبو البقاء فإنه قال: مصدقا حال مؤكدة، والعامل فيها ما في "الحق" من معنى الفعل إذ المعنى: وهو ثابت مصدقا، وصاحب الحال الضمير المستتر في "الحق" عند قوم، وعند آخرين صاحب الحال ضمير دل عليه الكلام، و"الحق" مصدر لا يتحمل الضمير على حسب تحمل اسم الفاعل له عندهم، فقوله "عند آخرين" هذا هو الذي قدمته أولا وهو الصواب.
قوله:
فلم تقتلون الفاء جواب شرط مقدر تقديره: إن كنتم آمنتم بما أنزل عليكم فلم قتلتم الأنبياء؟ وهذا تكذيب لهم؛ لأن الإيمان بالتوراة مناف لقتل أشرف خلقه.
و"لم" جار ومجرور، اللام حرف جر، وما استفهامية في محل جر أي: لأي شيء؟ ولكن حذفت ألفها فرقا بينها وبين "ما" الخبرية.
وقد تحمل الاستفهامية على الخبرية فتثبت ألفها، قال الشاعر:
616 - على ما قام يشتمني لئيم كخنزير تمرغ في رماد
وهذا ينبغي أن يخص بالضرورة كما نص عليه بعضهم،
nindex.php?page=showalam&ids=14423والزمخشري يجيز ذلك، ويخرج عليه بعض آي القرآن، كما قد تحمل الخبرية على الاستفهامية في الحذف في قولهم: اصنع بم شئت، وهذا لمجرد الشبه اللفظي.
وإذا وقف على "ما" الاستفهامية المجرورة: فإن كانت مجرورة باسم وجب لحاق هاء السكت نحو: مجيء مه، وإن كانت مجرورة بحرف فالاختيار اللحاق.
والفرق أن الحرف يمتزج بما يدخل عليه فتقوى به
[ ص: 517 ] الاستفهامية بخلاف الاسم المضاف إليها فإنه في نية الانفصال، وهذا الوقف إنما يجوز ابتلاء أو لقطع نفس، ولا جرم أن بعضهم منع الوقف على هذا النحو، قال: "لأنه إن وقف بغير هاء كان خطأ لنقصان الحرف، وإن وقف بهاء خالف السواد"، لكن البزي قد وقف بالهاء، ومثل ذلك لا يعد مخالفة للسواد، ألا ترى إلى إثباتهم بعض ياءات الزوائد.
والجار متعلق بقوله: "تقتلون"، ولكنه قدم عليه وجوبا لأن مجروره له صدر الكلام، والفاء وما بعدها من "تقتلون" في محل جزم، وتقتلون وإن كان بصيغة المضارع فهو في معنى الماضي لفهم المعنى، وأيضا فمعه قوله "من قبل"، وجاز إسناد القتل إليهم وإن لم يتعاطوه لأنهم لما كانوا راضين بفعل أسلافهم جعلوا كأنهم فعلوا هم أنفسهم.
قوله:
إن كنتم مؤمنين في "إن" قولان:
أحدهما: أنها شرطية وجوابها محذوف تقديره: إن كنتم مؤمنين فلم فعلتم ذلك، ويكون الشرط وجوابه قد كرر مرتين، فحذف الشرط من الجملة الأولى وبقي جوابه وهو: فلم تقتلون، وحذف الجواب من الثانية وبقي شرطه، فقد حذف من كل واحدة ما أثبت في الأخرى، وقال
nindex.php?page=showalam&ids=13366ابن عطية : "جوابها متقدم، وهو قوله: فلم" وهذا إنما يتأتى على قول الكوفيين
وأبي زيد.
والثاني: أن "إن" نافية بمعنى ما، أي: ما كنتم مؤمنين لمنافاة ما صدر منكم الإيمان.