صفحة جزء
آ. (97) قوله تعالى: قل من كان عدوا لجبريل فإنه . . . "من" شرطية في محل رفع بالابتداء، و "كان" خبره على ما هو الصحيح كما تقدم، وجوابه محذوف تقديره: من كان عدوا لجبريل فلا وجه لعداوته، أو فليمت [ ص: 17 ] غيظا ونحوه. ولا جائز أن يكون "فإنه نزله" جوابا للشرط لوجهين، أحدهما من جهة المعنى، والثاني من جهة الصناعة، أما الأول: فلأن فعل التنزيل متحقق المضي، والجزاء لا يكون إلا مستقبلا ولقائل أن يقول: هذا محمول على التبيين، والمعنى: فقد تبين أنه نزله، كما قالوا في قوله: "وإن كان قميصه قد [من دبر فكذبت" ونحوه. وأما الثاني: فلأنه] لا بد من جملة الجزاء من ضمير يعود على اسم الشرط، فلا يجوز: من يقم فزيد منطلق، ولا ضمير في قوله: "فإنه نزله" يعود على "من" فلا يكون جوابا للشرط، وقد جاءت مواضع كثيرة من ذلك، ولكنهم أولوها على حذف العائد فمن ذلك قوله:


624 - فمن تكن الحضارة أعجبته فأي رجال بادية تراني



وقوله:


625 - فمن يك أمسى بالمدينة رحله     فإني وقيار بها لغريب



وينبغي أن يبنى ذلك على الخلاف في خبر اسم الشرط. فإن قيل: إن الخبر هو الجزاء وحده - أو هو مع الشرط - فلا بد من الضمير ، وإن قيل بأنه فعل الشرط وحده فلا حاجة إلى الضمير، وقد تقدم قول أبي البقاء وغيره في ذلك عند قوله تعالى: "فمن تبع هداي"، وقد صرح الزمخشري بأنه جواب الشرط، وفيه النظر المذكور، وجوابه ماتقدم

[ ص: 18 ] و "عدوا" خبر كان، ويستوي فيه الواحد وغيره، قال: "هم العدو". والعداوة: التجاوز. قال الراغب: "فبالقلب يقال العداوة، وبالمشي يقال: العدو، وبالإخلال في العدل يقال: العدوان، وبالمكان أو النسب يقال: قوم عدى أي غرباء". و "لجبريل" يجوز أن يكون صفة لـ "عدوا" فيتعلق بمحذوف، وأن تكون اللام مقوية لتعدية "عدوا" إليه. وجبريل اسم ملك وهو أعجمي، فلذلك لم ينصرف، وقول من قال: "إنه مشتق من جبروت الله" بعيد، لأن الاشتقاق لا يكون في [الأسماء] الأعجمية، وكذا قول من قال: "إنه مركب تركيب الإضافة، وأن "جبر" معناه عبد، و "إيل" اسم من أسماء الله تعالى فهو بمنزلة عبد الله" لأنه كان ينبغي أن يجري الأول بوجوه الإعراب وأن ينصرف الثاني، وكذا قول المهدوي: إنه مركب تركيب مزج نحو: حضرموت لأنه كان ينبغي أن يبنى الأول على الفتح ليس إلا. وأما رد الشيخ عليه بأنه لو كان مركبا تركيب مزج لجاز فيه أن يعرب إعراب المتضايفين أو يبنى على الفتح كأحد عشر، فإن كل ما ركب تركيب المزج يجوز فيه هذه الأوجه، وكونه لم يسمع فيه البناء ولا جريانه مجرى المتضايفين دليل على عدم تركيبه تركيب المزج، فلا يحسن ردا لأنه جاء على أحد الجائزين واتفق أنه لم يستعمل إلا كذلك.

وقد تصرفت فيه العرب على عادتها في الأسماء الأعجمية فجاءت فيه بثلاث عشرة لغة، أشهرها وأفصحها: جبريل بزنة قنديل، وهي قراءة [ ص: 19 ] أبي عمرو ونافع وابن عامر وحفص عن عاصم. وهي لغة الحجاز، قال ورقة بن نوفل:


626 - وجبريل يأتيه وميكال معهما     من الله وحي يشرح الصدر منزل



وقال حسان:


627 - وجبريل رسول الله فينا     وروح القدس ليس له كفاء



وقال عمران بن حطان:


628 - والروح جبريل منهم لا كفاء له     وكان جبريل عند الله مأمونا



الثانية: كذلك إلا أنه بفتح الجيم، وهي قراءة ابن كثير والحسن، وقال الفراء: "لا أحبها لأنه ليس في كلامهم فعليل". وما قاله ليس بشيء لأن ما أدخلته العرب في لسانها على قسمين: قسم ألحقوه بأبنيتهم كلجام، وقسم لم يلحقوه كإبريسم، على أنه قيل إنه نظير شمويل اسم طائر، وعن ابن كثير أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقرأ: جبريل وميكائيل، قال: فلا أزال أقرؤهما كذلك. الثالث: جبرئيل كعنتريس، وهي لغة قيس وتميم، وبها قرأ حمزة والكسائي، وقال حسان:


629 - شهدنا فما تلقى لنا من كتيبة     الدهر إلا جبرئيل أمامها



[ ص: 20 ] وقال جرير:


630 - عبدوا الصليب وكذبوا بمحمد     وبجبرئيل وكذبوا ميكالا



الرابعة: كذلك إلا أنه لا ياء بعد الهمزة، وتروى عن عاصم ويحيى بن يعمر. الخامسة: كذلك إلا أن اللام مشددة، وتروى أيضا عن عاصم ويحيى بن يعمر أيضا قالوا: و "إل" بالتشديد اسم الله تعالى، وفي بعض التفاسير: "لا يرقبون في مؤمن إلا ولا ذمة" قيل: معناه الله. وروي عن أبي بكر لما سمع بسجع مسيلمة: "هذا كلام لم يخرج من إل". السادسة: جبرائل، بألف بعد الراء وهمزة مكسورة بعد الألف، وبها قرأ عكرمة. السابعة: مثلها إلا أنها بياء بعد الهمزة. الثامنة: جبراييل بياءين بعد الألف من غير همز، وبها قرأ الأعمش ويحيى أيضا. التاسعة: جبرال. العاشرة: جبرايل بالياء والقصر وهي قراءة طلحة بن مصرف. الحادية عشرة، جبرين بفتح الجيم والنون. الثانية عشرة: كذلك إلا أنها بكسر الجيم. الثالثة عشرة: جبرايين. والجملة من قوله: "من كان" في محل نصب بالقول، والضمير في قوله: "فإنه" يعود على جبريل، وفي قوله "نزله" يعود على القرآن، وهذا موافق لقوله: "نزل به الروح الأمين" في قراءة من رفع "الروح"، ولقوله "مصدقا"، وقيل: الأول يعود على الله والثاني يعود على جبريل، وهو موافق لقراءة من قرأ "نزل به الروح" بالتشديد والنصب، وأتى بـ "على" التي تقتضي [ ص: 21 ] الاستعلاء دون "إلى" التي تقتضي الانتهاء، وخص القلب بالذكر لأنه خزانة الحفظ وبيت الرب، وأضافه إلى ضمير المخاطب دون ياء المتكلم - وإن كان ظاهر الكلام يقتضي أن يكون "على قلبي" - لأحد أمرين: إما مراعاة لحال الأمر بالقول فتسرد لفظه بالخطاب كما هو نحو قولك: قل لقومك لا يهينوك، ولو قلت: لا تهينوني لجاز، ومنه قول الفرزدق:


631 - ألم تر أني يوم جو سويقة     دعوت فنادتني هنيدة: ما ليا



فأحرز المعنى ونكب عن نداء هنيدة بـ "مالك"؟، وإما لأن ثم قولا آخر مضمرا بعد "قل"، والتقدير: قل يا محمد: قال الله من كان عدوا لجبريل، وإليه نحا الزمخشري بقوله: "جاءت على حكاية كلام الله تعالى، قل ما تكلمت به من قولي: من كان عدوا لجبريل فإنه نزله على قلبك" فعلى هذا الجملة الشرطية معمولة لذلك القول المضمر، والقول المضمر معمول للفظ "قل"، والظاهر ما تقدم من كون الجملة معمولة للفظ "قل" بالتأويل المذكور أولا، ولا ينافيه قول الزمخشري فإنه قصد تفسير المعنى لا تفسير الإعراب.

قوله: "بإذن الله" في محل نصب على الحال من فاعل: "نزله" إن قيل إنه ضمير جبريل، أو من مفعوله إن قيل إن الضمير المرفوع في "نزل" يعود على الله، والتقدير: فإنه نزله مأذونا له أو ومعه إذن الله. [والإذن في الأصل العلم بالشيء، والإيذان: الإعلام] ، أذن به: علم به. وأذنته بكذا: أعلمته به، [ ص: 22 ] ثم يطلق على التمكين، أذن لي في كذا: أمكنني منه، وعلى الاختيار: فعلته بإذنك: أي باختيارك، وقول من قال بإذنه أي: بتيسيره راجع إلى ذلك.

قوله: "مصدقا" حال من الهاء في "نزله" إن كان يعود الضمير على القرآن، وإن عاد على جبريل ففيه احتمالان، أحدهما: أن يكون من المجرور المحذوف لفهم المعنى، والتقدير: فإن الله نزل جبريل بالقرآن مصدقا، والثاني: أن يكون من جبريل بمعنى مصدقا لما بين يديه من الرسل وهي حال مؤكدة، والهاء في "بين يديه" يجوز أن تعود على "القرآن" أو على "جبريل".

و "هدى وبشرى" حالان معطوفان على الحال قبلهما، فهما مصدران موضوعان موضع اسم الفاعل، أو على المبالغة أو على حذف مضاف أي: ذا هدى، و "بشرى" ألفها للتأنيث، وجاء هذا الترتيب اللفظي في هذه الأحوال مطابقا للترتيب الوجودي، وذلك أنه نزل مصدقا للكتب لأنها من ينبوع واحد، والثاني: أنه حصلت به الهداية بعد نزوله. والثالث: أنه بشرى لمن حصلت له به الهداية، وخص المؤمنين لأنهم المنتفعون به دون غيرهم وقد تقدم نحوه.

التالي السابق


الخدمات العلمية