ولقد فتنا قبلهم قوم فرعون وجاءهم رسول كريم . أن أدوا إلي عباد الله إني لكم رسول أمين . وأن لا تعلوا على الله إني آتيكم بسلطان مبين . وإني عذت بربي وربكم أن ترجمون . وإن لم تؤمنوا لي فاعتزلون . فدعا ربه أن هؤلاء قوم مجرمون . فأسر بعبادي ليلا إنكم متبعون . واترك البحر رهوا إنهم جند مغرقون كم تركوا من جنات وعيون وزروع ومقام كريم . ونعمة كانوا فيها فاكهين . كذلك وأورثناها قوما آخرين . فما بكت عليهم السماء والأرض وما كانوا منظرين .
قوله تعالى:
ولقد فتنا أي: ابتلينا
قبلهم أي: قبل قومك
قوم فرعون بإرسال
موسى إليهم
وجاءهم رسول كريم وهو
موسى بن عمران .
وفي معنى "كريم" ثلاثة أقوال . أحدها: حسن الخلق، قاله
nindex.php?page=showalam&ids=17132مقاتل . [ ص: 343 ] والثاني: كريم على ربه، قاله
nindex.php?page=showalam&ids=14888الفراء . والثالث: شريف وسيط النسب، قاله
nindex.php?page=showalam&ids=12033أبو سليمان .
قوله تعالى:
أن أدوا أي: بأن أدوا
إلي عباد الله وفيه قولان .
أحدهما: أدوا إلي ما أدعوكم إليه من الحق باتباعي، روى هذا المعنى
nindex.php?page=showalam&ids=14836العوفي عن
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس . فعلى هذا ينتصب "عباد الله" بالنداء . قال
nindex.php?page=showalam&ids=14416الزجاج : ويكون المعنى: أن أدوا إلي ما آمركم به يا عباد الله .
والثاني: أرسلوا معي بني إسرائيل، قاله
nindex.php?page=showalam&ids=16879مجاهد، nindex.php?page=showalam&ids=16815وقتادة، والمعنى: أطلقوهم من تسخيركم، وسلموهم إلي .
وأن لا تعلوا على الله فيه ثلاثة أقوال . أحدها: لا تفتروا عليه، قاله
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس . والثاني: لا تعتوا عليه، قاله
nindex.php?page=showalam&ids=16815قتادة . والثالث: لا تعظموا عليه، قاله
nindex.php?page=showalam&ids=13036ابن جريج إني آتيكم بسلطان مبين أي: بحجة تدل على صدقي .
فلما قال هذا تواعدوه بالقتل فقال:
وإني عذت بربي وربكم أن ترجمون وفيه قولان .
أحدهما: أنه رجم القول، قاله
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس; فيكون المعنى: أن يقولوا: شاعر أو مجنون .
والثاني: القتل، قاله
nindex.php?page=showalam&ids=14468السدي . وإن لم تؤمنوا لي فاعتزلون أي: فاتركوني لا معي ولا علي، فكفروا ولم يؤمنوا،
فدعا ربه أن هؤلاء قال
nindex.php?page=showalam&ids=14416الزجاج : من فتح "أن"، فالمعنى: بأن هؤلاء; ومن كسر، فالمعنى: قال: إن هؤلاء، و "إن" بعد القول مكسورة . وقال المفسرون: المجرمون هاهنا: المشركون .
[ ص: 344 ] فأجاب الله دعاءه، وقال:
فأسر بعبادي ليلا يعني بالمؤمنين
إنكم متبعون يتبعكم
فرعون وقومه; فأعلمهم أنهم يتبعونهم، وأنه سيكون سببا لغرقهم .
واترك البحر رهوا أي: ساكنا على حاله بعد أن انفرق لك، ولا تأمره أن يرجع كما كان حتى يدخله
فرعون وجنوده . والرهو: مشي في سكون .
قال
nindex.php?page=showalam&ids=16815قتادة: لما قطع
موسى عليه السلام البحر، عطف يضرب البحر بعصاه ليلتئم، وخاف أن يتبعه
فرعون وجنوده، فقيل [له]: "واترك البحر رهوا"، أي: كما هو- طريقا يابسا .
قوله تعالى:
إنهم جند مغرقون أخبره الله عز وجل بغرقهم ليطمئن قلبه في ترك البحر على حاله .
كم تركوا أي: بعد غرقهم
من جنات وقد فسرنا الآية في [الشعراء: 57] . فأما "النعمة" فهو العيش اللين الرغد . وما بعد هذا قد سبق بيانه [يس: 55] إلى قوله:
وأورثناها قوما آخرين يعني بني إسرائيل .
فما بكت عليهم السماء أي: على آل
فرعون، وفي معناه ثلاثة أقوال .
أحدها: أنه على الحقيقة; روى
nindex.php?page=showalam&ids=9أنس بن مالك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:
nindex.php?page=hadith&LINKID=939558 "ما من مسلم إلا وله في السماء بابان، باب يصعد فيه عمله، وباب ينزل منه [ ص: 345 ] رزقه، فإذا مات بكيا عليه" وتلا صلى الله عليه وسلم هذه الآية . وقال
علي رضي الله عنه:
nindex.php?page=hadith&LINKID=939558إن المؤمن إذا مات بكى عليه مصلاه من الأرض ومصعد عمله من السماء، وإن آل فرعون لم يكن لهم في الأرض مصلى ولا في السماء مصعد عمل، فقال الله تعالى: "فما بكت عليهم السماء والأرض"، وإلى نحو هذا ذهب
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس، nindex.php?page=showalam&ids=14676والضحاك ،
nindex.php?page=showalam&ids=17132ومقاتل . وقال
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس: الحمرة التي في السماء: بكاؤها . وقال
nindex.php?page=showalam&ids=16879مجاهد: ما مات مؤمن إلا بكت عليه السماء والأرض أربعين صباحا، فقيل له: أو تبكي؟ قال: وما للأرض لا تبكي على عبد كان يعمرها بالركوع والسجود؟! وما للسماء لا تبكي على عبد كان لتسبيحه وتكبيره فيها دوي كدوي النحل؟! .
والثاني: أن المراد: أهل السماء وأهل الأرض، قاله
nindex.php?page=showalam&ids=14102الحسن، ونظير هذا قوله تعالى:
حتى تضع الحرب أوزارها [محمد: 4]، أي: أهل الحرب .
والثالث: أن
العرب تقول إذا أرادت تعظيم مهلك عظيم: أظلمت الشمس له، وكسف القمر لفقده، وبكته الريح والبرق والسماء والأرض، يريدون المبالغة في وصف المصيبة، وليس ذلك بكذب منهم، لأنهم جميعا
[ ص: 346 ] متواطئون عليه، والسامع له يعرف مذهب القائل فيه; ونيتهم في قولهم: أظلمت الشمس: كادت تظلم، وكسف القمر: كاد يكسف، ومعنى "كاد": هم أن يفعل ولم يفعل; قال
ابن مفرغ يرثي رجلا:
الريح تبكي شجوه والبرق يلمع في غمامه
وقال الآخر
الشمس طالعة ليست بكاسفة- تبكي عليك- نجوم الليل والقمرا
أراد: الشمس طالعة تبكي عليه، وليست مع طلوعها كاسفة النجوم والقمر، لأنها مظلمة، وإنما تكسف بضوئها، فنجوم الليل بادية بالنهار، فيكون معنى الكلام: إن الله لما أهلك قوم
فرعون لم يبك عليهم باك: ولم يجزع جازع، ولم يوجد لهم فقد، هذا كله كلام
nindex.php?page=showalam&ids=13436ابن قتيبة .