إنا بلوناهم كما بلونا أصحاب الجنة إذ أقسموا ليصرمنها مصبحين . ولا يستثنون . فطاف عليها طائف من ربك وهم نائمون . فأصبحت كالصريم . فتنادوا مصبحين . أن اغدوا على حرثكم إن كنتم صارمين . فانطلقوا وهم يتخافتون . أن لا يدخلنها اليوم عليكم مسكين . وغدوا على حرد قادرين . فلما رأوها قالوا إنا لضالون . بل نحن محرومون . قال أوسطهم ألم أقل لكم لولا تسبحون . قالوا سبحان ربنا إنا كنا ظالمين . فأقبل بعضهم على بعض يتلاومون . قالوا يا ويلنا إنا كنا طاغين . عسى ربنا أن يبدلنا خيرا منها إنا إلى ربنا راغبون . كذلك العذاب ولعذاب الآخرة أكبر لو كانوا يعلمون . [ ص: 335 ] إن للمتقين عند ربهم جنات النعيم . أفنجعل المسلمين كالمجرمين . ما لكم كيف تحكمون . أم لكم كتاب فيه تدرسون . إن لكم فيه لما تخيرون . أم لكم أيمان علينا بالغة إلى يوم القيامة إن لكم لما تحكمون . سلهم أيهم بذلك زعيم . أم لهم شركاء فليأتوا بشركائهم إن كانوا صادقين .
قوله تعالى:
إنا بلوناهم يعني: أهل
مكة، أي: ابتليناهم بالجوع، والقحط
كما بلونا أصحاب الجنة حين هلكت جنتهم .
وهذه الإشارة إلى قصتهم
ذكر أهل التفسير أن رجلا كان بناحية
اليمن له بستان، وكان مؤمنا . وذلك بعد
عيسى بن مريم عليهما السلام، وكان يأخذ منه قدر قوته، وكان يتصدق بالباقي . وقيل: كان يترك للمساكين ما تعداه المنجل، وما يسقط من رؤوس النخل، وما ينتثر عند الدراس، فكان يجتمع من هذا شيء كثير، فمات الرجل عن ثلاث بنين، فقالوا: والله إن المال لقليل، وإن العيال لكثير، وإنما كان أبونا يفعل هذا إذ كان المال كثيرا، والعيال قليلا، وأما الآن فلا نستطيع أن نفعل هذا . فعزموا على حرمان المساكين، وتحالفوا بينهم ليغدن قبل خروج الناس، فليصرمن نخلهم، فذلك قوله تعالى:
إذ أقسموا أي: حلفوا
"ليصرمنها" أي: ليقطعن نخلهم
مصبحين أي: في أول الصباح . وقد بقيت من الليل ظلمة لئلا يبقى للمساكين شيء .
وفي قوله تعالى:
ولا يستثنون قولان .
أحدهما: لا يقولون: إن شاء الله، قاله الأكثرون .
[ ص: 336 ] والثاني: لا يستثنون حق المساكين، قاله
nindex.php?page=showalam&ids=16584عكرمة "فطاف عليها طائف من ربك" أي: من أمر ربك . قال
nindex.php?page=showalam&ids=14888الفراء: الطائف لا يكون إلا بالليل . قال المفسرون: بعث الله عليها نارا بالليل، فاحترقت، فصارت سوداء، فذلك قوله تعالى:
فأصبحت كالصريم وفيه ثلاثة أقوال .
أحدها: كالرماد الأسود، قاله
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس .
والثاني: كالليل المسود، قاله
nindex.php?page=showalam&ids=14888الفراء . وكذلك قال
nindex.php?page=showalam&ids=13436ابن قتيبة: أصبحت سوداء كالليل محترقة . والليل: هو الصريم، والصبح أيضا: صريم، لأن كل واحد منهما ينصرم عن صاحبه .
والثالث: أصبحت وقد ذهب ما فيها من الثمر، فكأنه قد صرم، أي: قطع، وجذ حكاه
nindex.php?page=showalam&ids=13436ابن قتيبة أيضا .
قوله تعالى:
فتنادوا مصبحين أي: نادى بعضهم بعضا لما أصبحوا "أن اغدوا على حرثكم" يعني: الثمار والزروع والأعناب
"إن كنتم صارمين" أي: قاطعين للنخل،
"فانطلقوا" أي: ذهبوا إلى جنتهم
"وهم يتخافتون" قال
nindex.php?page=showalam&ids=13436ابن قتيبة: يتساررون بـ "أن لا يدخلنها اليوم عليكم مسكين وغدوا على حرد" فيه ثمانية أقوال .
أحدهما: على قدرة، قاله
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس .
والثاني: على فاقة، قاله
nindex.php?page=showalam&ids=14102الحسن في رواية .
والثالث: على جد، قاله
nindex.php?page=showalam&ids=14102الحسن في رواية،
nindex.php?page=showalam&ids=16815وقتادة، nindex.php?page=showalam&ids=11873وأبو العالية، nindex.php?page=showalam&ids=14888والفراء، nindex.php?page=showalam&ids=17132ومقاتل .
والرابع: على أمر مجمع قد أسسوه بينهم، قاله
nindex.php?page=showalam&ids=16879مجاهد، nindex.php?page=showalam&ids=16584وعكرمة .
والخامس: أن الحرد: اسم الجنة، قاله
nindex.php?page=showalam&ids=14468السدي . [ ص: 337 ] والسادس: أنه الحنق والغضب على المساكين، قاله
nindex.php?page=showalam&ids=14577الشعبي، nindex.php?page=showalam&ids=16004وسفيان . وأنشد
nindex.php?page=showalam&ids=12078أبو عبيدة: أسود شرى لاقت أسود خفية تساقوا على حرد دماء الأساود
والسابع: أنه المنع مأخوذ من حاردت السنة فليس فيها مطر، وحاردت الناقة فليس لها لبن، قاله
nindex.php?page=showalam&ids=12078أبو عبيدة، nindex.php?page=showalam&ids=13436وابن قتيبة:
والثامن: أنه القصد . يقال: حردت حردك، أي: قصدت قصدك، حكاه
nindex.php?page=showalam&ids=14888الفراء، nindex.php?page=showalam&ids=12078وأبو عبيدة، nindex.php?page=showalam&ids=13436وابن قتيبة . وأنشدوا:
قد جاء سيل كان من أمر الله يحرد حرد الجنة المغله
أي: يقصد قصدها . قال
nindex.php?page=showalam&ids=13436ابن قتيبة: وفيها لغتان: حرد، وحرد، كما يقال: الدرك، والدرك،
[ ص: 338 ] وفي قوله تعالى:
قادرين ثلاثة أقوال .
أحدها: قادرين على جنتهم عند أنفسهم، قاله
nindex.php?page=showalam&ids=16815قتادة .
والثاني: قادرين على المساكين، قاله
nindex.php?page=showalam&ids=14577الشعبي . والثالث: أن المعنى: منعوا وهم قادرون، أي: واجدون، قاله
nindex.php?page=showalam&ids=13436ابن قتيبة . قالوا:
"فلما رأوها" محترقة
"قالوا إنا لضالون" أي: قد ضللنا طريق جنتنا، فليست هذه . ثم علموا أنها عقوبة، فقالوا:
"بل نحن محرومون" أي: حرمنا ثمر جنتنا بمنعنا المسكين
"قال أوسطهم" أي: أعدلهم، وأفضلهم
"لولا" أي: هلا
"تسبحون" وفيه ثلاثة أقوال .
أحدها: هلا تستثنون عند قولكم:
"ليصرمنها مصبحين" قاله
nindex.php?page=showalam&ids=13036ابن جريج والجمهور . والمعنى: هلا قلتم: إن شاء الله . قال
nindex.php?page=showalam&ids=14416الزجاج: وإنما قيل للاستثناء: تسبيح، لأن التسبيح في اللغة: تنزيه الله عز وجل عن السوء . والاستثناء تعظيم لله، وإقرار بأنه لا يقدر أحد أن يفعل فعلا إلا بمشيئة الله .
والثاني: أنه كان استثناؤهم قول: "سبحان الله "قاله
nindex.php?page=showalam&ids=12047أبو صالح .
والثالث: هلا تسبحون الله وتشكرونه على ما أعطاكم، حكاه
nindex.php?page=showalam&ids=13968الثعلبي .
وقوله تعالى:
قالوا سبحان ربنا فنزهوه أن يكون ظالما فيما صنع، وأقروا على أنفسهم بالظلم فقالوا:
"إنا كنا ظالمين" بمنعنا المساكين "فأقبل بعضهم على بعض يتلاومون" أي: يلوم بعضهم بعضا في منع المساكين حقوقهم . يقول هذا
[ ص: 339 ] لهذا: أنت أشرت علينا، ويقول الآخر: أنت فعلت، ثم نادوا على أنفسهم بالويل، فقالوا:
"يا ويلنا إنا كنا طاغين" حين لم نصنع ما صنع آباؤنا، ثم رجعوا إلى الله تعالى فسألوه أن يبدلهم خيرا منها، فذلك قوله:
عسى ربنا أن يبدلنا خيرا منها . وقرأ قوم: "يبدلنا" بالتخفيف، وهما لغتان . وفرق قوم بينهما، فقالوا: التبديل: تغيير حال الشيء وصفته والعين باقية . والإبدال: إزالة الشيء ووضع غيره مكانه . ونقل أن القوم أخلصوا، فبدلهم الله جنة العنقود منها وقر بغل .
قوله تعالى:
كذلك العذاب ما فعلنا بهم نفعل بمن تعدى حدودنا . وها هنا انتهت قصة أهل الجنة . ثم قال تعالى:
ولعذاب الآخرة أكبر لو كانوا يعلمون يعني: المشركين . ثم ذكر ما للمتقين عنده بما بعد هذا فقال المشركون: إنا لنعطى في الآخرة أفضل مما تعطون، فقال تعالى مكذبا لهم
أفنجعل المسلمين كالمجرمين قال
nindex.php?page=showalam&ids=14416الزجاج: هذه ألف الاستفهام مجازها ها هنا مجاز التوبيخ، والتقرير .
قوله تعالى:
كيف تحكمون أي: كيف تقضون بالجور
أم لكم كتاب أنزل من عند الله
"فيه" هذا
تدرسون أي: تقرؤون ما فيه
"إن لكم" في ذلك الكتاب
"لما تخيرون" أي: ما تختارون وتشتهون . وقرأ
nindex.php?page=showalam&ids=11838أبو الجوزاء، وعاصم الجحدري، وأبو عمران: أن لكم بفتح الهمزة . وهذا تقريع لهم، وتوبيخ على ما يتمنون من الباطل "سلهم أيهم بذلك زعيم"
"أم لكم أيمان علينا بالغة" أي: ألكم عهود على الله تعالى حلف لكم على ما تدعون بأيمان بالغة، أي: مؤكدة . وكل شيء متناه في الجودة والصحة فهو بالغ . ويجوز أن يكون المعنى: بالغة إلى يوم القيامة، أي: تبلغ تلك الأيمان إلى يوم القيامة في لزومها وتوكيدها "إن لكم لما تحكمون" لأنفسكم به من الخير والكرامة عند
[ ص: 340 ] الله تعالى . قال
nindex.php?page=showalam&ids=14888الفراء: والقراء على رفع بالغة إلا
nindex.php?page=showalam&ids=14102الحسن فإنه نصبها على مذهب المصدر، كقوله تعالى:
حقا [الروم: 47] . ومعنى الآية: هل لكم أيمان علينا بالغة بأن لكم ما تحكمون؟! . فلما كانت اللام في جواب "إن" كسرتها .
قوله تعالى:
سلهم أيهم بذلك زعيم فيه قولان .
أحدهما: أنه الكفيل، قاله
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس، nindex.php?page=showalam&ids=16815وقتادة . والمعنى: أيهم كفل بأن لهم في الآخرة ما للمسلمين من الخير .
والثاني: أنه الرسول، قاله
nindex.php?page=showalam&ids=14102الحسن .
قوله تعالى:
أم لهم شركاء يعني: الأصنام التي جعلوها شركاء لله تعالى، والمعنى: ألهم أرباب يفعلون بهم هذا الذي زعموا . وقيل: يشهدون لهم بصدق ما ادعوا "فليأتوا بشركائهم إن كانوا صادقين" في أنها شركاء الله . وإنما أضيف الشركاء إليهم لادعائهم أنهم شركاء الله .